يتفق اللبنانيون اليوم (وهذا أمرٌ نادراً ما يحدث) على أنه من مصلحة لبنان بعد بضعة أشهر التجديد لحاكم مصرف لبنان ​رياض سلامة​. فمن يراه رمزاً لاستقرار العملة الوطنية أو من يراه رمزاً لـ"الليبرالية المتفلتة" يتفقون على أننا وبعد هذه الفترة الطويلة "اللا مثيل لها" من الفراغ الرئاسي والتعطيل السياسي، ليس من مصلحتنا التخلي عن حاكم بذكاء سلامة.

وللإطلاع أكثر على تفاصيل هذا الموضوع الذي سيكون الأبرز في الفترة المقبلة أجرت "الإقتصاد" هذا اللقاء مع الاقتصادي ونائب سابق للحاكم د. غسان العيّاش:

- د. العياش، تشارف ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على الإنتهاء، هل تتوقع ان يتم تعيينه لولاية جديدة أم تتوقع ان يصل مرشّحاً جديداً لتولّي رئاسة المصرف؟

من المبكر الحديث عن هذا الموضوع، خصوصاً أن ولاية الحاكم رياض سلامة تنتهي في شهر آب من العام المقبل، أي بعد عام من الآن تقريبا. إلا أنه يمكن النظر إلى هذه المسألة من مقاربتين مختلفتين: سياسية ونقدية.

من الناحية السياسية لا يمكن التكهّن بما ستكون عليه أوضاع البلاد في الصيف المقبل وما إذا كان تعطيل مجلس الوزراء سيبقى مستمرّا إلى ذلك الحين. ولا بدّ من ملاحظة أن تعيين حاكم مصرف لبنان يختلف عن تعيين قائد الجيش، فإذا كان بالإمكان التمديد لقائد الجيش عن طريق تأجيل تسريحه، فإن حاكم مصرف لبنان لا يمكن تمديد ولايته بالمواربة، فولايته تنتهي حكما في اليوم الأخير منها. قانون النقد والتسليف ينصّ على تولي نائب الحاكم الأوّل صلاحيات الحاكم فور انتهاء ولاية الأخير. وينبغي أن تعي الحكومة، في حينه، هذا الأمر، إذا كانت هناك حكومة.

أما من حيث صلب الموضوع، فأرى أن الحكومة لن تستطع المغامرة وقتها بتعيين حاكم جديد لأن ذلك يعني المغامرة بالاستقرار النقدي، بعدما أثبت الحاكم سلامة قدرته على الحفاظ على الاستقرار النقدي في أصعب الظروف الاقتصادية والسياسية التي لم يعرف لبنان مثيلا لها منذ الاستقلال.

- هل يعني ذلك توقعك أن يستمر رياض سلامة في موقعه كحاكم لمصرف لبنان؟

لن تستطيع السلطة التنفيذية الاستغناء عن الحاكم سلامة إلا إذا تمكنت من الآن وحتى نهاية ولايته من تحقيق إصلاحات مالية واقتصادية وإدارية جذرية ومتكاملة توقف تدهور المالية العامّة وتدفع قدما بالنموّ الاقتصادي، وتستعيد الثقة المفقودة بالدولة اللبنانية، داخليا وخارجيا. هذا الأمر، ضمن المعطيات الراهنة، هو ضرب من الخيال، لأن الدولة التي تسيّر أمورها المالية دون موازنة منذ عقد ونيّف عاجزة عن اتخاذ أبسط القرارات فكيف تستطيع اعتماد إصلاح اقتصادي يتطلب قرارات جريئة وغير شعبية؟

بنظري إن المشكلة، ضمن المعطيات الراهنة، ليست لدى الحكومة. فالسياسيون يقامرون بكل شيء ولكنهم يرتعدون خوفا من زعزعة الاستقرار النقدي، لأن ذلك يصبّ عليهم غضب الشارع، وتظاهرات  سنة 1992 لا زالت ماثلة في أذهانهم. المشكلة ربما كانت لدى الحاكم نفسه. فمن قال أنه سيقبل بتمديد ولايته مرّة أخرى دون أن يفرض شروطه هذه المرّة؟ من الأفضل أن يضع على طاولة مجلس الوزراء شروطه لقبول الاستمرار في ولاية جديدة، شروط تتعلق بالاصلاح المالي والاقتصادي وبإدارة شؤون الدولة. فلم يعد جائزا أن يستمرّ الاستقرار النقدي، والاجتماعي، معلقا على "هندسات" يبتدعها رياض سلامة، عاما بعد عام ليمنح الدولة المتهافتة فرصا مهدورة بأثمان غالية.

- ماذا ستكون نتائج تعيين شخص آخر في هذا المنصب؟ ألن يؤثر ذلك على الثقة بالإقتصاد اللبناني والليرة اللبنانية؟

الحاكم رياض سلامة حقق بخبرته والثقة القائمة بينه وبين القطاع المالي ما يشبه المعجزة، وهي الحفاظ على سعر صرف الليرة اللبنانية فيما البلد يعيش أسوأ أشكال عدم الاستقرار، مقرونة بالأزمات السياسية والفراغ في السلطة والحروب والاضطرابات الأمنية، في لبنان ومحيطه.

لم تكن هذه المعجزة بدون أثمان اقتصادية واجتماعية، ولكنها كانت حاجة ماسّة في ظل تهافت الدولة وعدم الاستقرار السياسي. ليس في ذهني أي شخص آخر يستطيع أن يمارس "السحر" نفسه.

الموضوع لا يتعلق بالمعرفة التقنية، فلبنان غني بالكفاءات.الأمر يتعلق بالثقة التي يتمتع بها رياض سلامة في الأوساط السياسية والمصرفية والاقتصادية، ثقة اكتسبها بفعل ممارسته خلال ربع قرن.

هذه الثقة يصعب أن يحصل عليها شخص آخر، مهما كان متمرسا بالعلوم والشؤون المالية والاقتصادية، قبل وقت طويل من الممارسة. والمشكلة أن الوقت داهم والاستحقاقات لا ترحم، ولا مجال للتجارب والمراهنات.

- ما رأيك بالهندسات المالية الجديدة التي اتخذها سلامة مؤخراً؟

العمليات التي أجراها مصرف لبنان مؤخرا أدّت إلى تعزيز احتياطي المصرف بالعملات الأجنبية، مما يشكل عنصر اطمئنان إلى قدرته على الاستمرار في الدفاع عن الليرة اللبنانية لفترة مقبلة، وتمويل التزامات الدولة الخارجية. كما أنها أمّنت أرباحاللقطاع المصرفي تمكّن مؤسّساته من الوفاء بالالتزامات التي ستفرض عليها سنة 2018 نتيجة تطبيق المعايير المصرفية العالمية الجديدة.

ولكن هذه الهندسات التي اضطر المصرف لاعتمادها، نتيجة المخاوف من أية تطورات داخلية أو اقليمية، لم تكن بدون ثمن. بل كان ثمنها باهظا. فقد أدّت من جهة أخرى إلى خلق كتلة نقدية إضافية بالليرة اللبنانية، مع ما يحمل ذلك من مخاطر تضخمية. كما أنها زادت دين الدولة بالعملات الأجنبية، ورفعت ايداعات المصارف لدى مصرف لبنان، التي كانت سقوفها أصلا مرتفعة جدّا، وبذلك تقلصت قدرة المصارف على تسليف الاقتصاد، وهذا عنصر معاكس لاحتياجات النموّ في اقتصاد يعاني من الركود.

ويشاع أن عمليات مصرف لبنان أدّت إلى فوضى في سوق الفوائد، حيث يروى أن بعض المصارف استقطب ودائع جديدة بالدولار بفوائد فاحشة، لم يسبق لأي مصرف أن دفعها في تاريخ لبنان المالي، وذلك بهدف الاستفادة من الفرصة التي أفسحها مصرف لبنان بحسم سندات الخزينة بالليرة اللبنانية على النحو المعروف.