المالية العامة تنزف تحت ثقل إنفاق غير عقلاني. فبين خدمة ​الدين العام​ وأجور الموظفين في القطاع العام ومؤسسة كهرباء لبنان، تُسجّل الموازنة العامة عجزاً سنوياً يفوق المليارات من الدولارات وذلك منذ أكثر من عشر سنوات. إلا أن دراسة الدين العام تُظهر أن خدمة هذا الدين أصبحت تُشكّل خطراً فعلياً على المالية العامة.

خلال عشرة أعوام من الإنفاق على أساس القاعدة الإثني عشرية إرتفع الدين العام من 38.5 مليار دولار أميركي في العام 2005 إلى 70.3 مليار دولار أميركي في العام 2015 أي أن صرف على أساس هذه القاعدة غير المُحترمة من قبل السلطات السياسية، أدّى إلى رفع الدين العام إلى الضعف تقريباً. وفي التفاصيل أن القاعدة الإثني عشرية تنص على أخذ موازنة العام 2005 (أي أخر موازنة تمّ التصويت عليها) وتقسيمها إلى 12 شهر والصرف على أساس شهري للموازنة العام 2005. إلا أن ما حصل في لبنان لم يكن أبداً كذلك، فالتوظيف في القطاع العام إرتفع بشكل كبير كما أن عدوان تمّوز وغيرها من الأحداث زادت الإنفاق بشكل كبير أصبح معه من شبه المُستحيل أن يتمّ الصرف على أساس القاعدة الإثني عشرية. وبذلك قامت السلطات بخلق "بدعة" جديدة تنص على فتح إعتمادات من خارج الموازنة كما وفتكت بإحتياط الموازنة إلى درجة أصبح نصف الإنفاق اليوم يتمّ من خلال هذه الإعتمادات.

وبما أنه معروف في لبنان أن كل مشكلة مهما كان نوعها (حدث أمني، سياسي...) يتمّ على حساب المالية العامة، أخذ الدين العام بالإزدياد بشكل كبير ومعه خدمة الدين العام التي أصبحت عبء ثقيل على المالية العام من ناحية أنها تُشكّل 50% من إجمالي الإيرادات!! نعم الدولة تدفع نصف إيراداتها على فوائد دينها العام وهذا الأمر أكثر من فضيحة!

وبالنظر إلى تفاصيل خدمة الدين العام، نرى أن هذه الخدمة إرتفعت من 4.940 مليار ليرة لبنانية في العام 2007 إلى 7.050 مليار ليرة في العام 2015. وتُشكّل الفوائد على القروض الداخلية أكثر من 61% من مجمل خدمة الدين العام في حين تُشكّل الفوائد على القروض الخارجية 34% وتسديد أقساط ديون خارجية 5%. والمُلاحظ من هذا التوزيع أن هناك إستراتيجية تعتمدها السلطات المالية تنص على قلب الدين العام الخارجي إلى دين عام داخلي كما يُثبته غياب تسديد أقساط ديون داخلية!

وقد يظن البعض أنه هذا الأمر بالجيد، لكن يتوجب معرفة أن هذه الخطوة يُمكن القيام بها إذا ما كان هناك سيطرة على خدمة الدين العام. إلا أن هذا الشرط غير مُتوفر وبالتالي نلاحظ من هيكلية خدمة الدين العام أن هناك إنفجار لخدمة الدين العام الداخلية دون أن يكون هناك من تأثير على خدمة الدين العام الخارجية.

والمعروف أن الإنضباط المالي للدولة لا يُقاس بالعجز بالموازنة ذلك أن هذا العجز قد ينتج عن الدورة الاقتصادية أو عن إستثمارات تقوم بها الدولة، بل يُقاس من خلال الميزان الأوّلي الذي يجب أن يُسجّل فائضاً يفوق خدمة الدين العام لكي يكون هناك إنضباط مالي على المدى البعيد للدولة. والجدير بالذكر أن الميزان الأوّلي هو عبارة عن الوضع المالي للدولة قبل دفع الفوائد على الدين العام. ويتمّ الحديث عن عجز في الميزان الأوّلي إذا ما كانت الوضع المالي سلبي وفائض في حال كان الوضع المالي إيجابي. ويتمّ إستخدام الميزان الأوّلي في دراسة ديناميكية الدين العام بهدف السيطرة على خدمة الدين العام أو خفض هذا الدين.

وفي حال لبنان نرى أن الميزان الأوّلي يتأرجح حول معدّل 800 مليون دولار أميركي مع تسجيله لعجز في العام 2012 (110 مليون د.أ) والعام 2013 (240 مليون د.أ). وبالتالي نرى أن هذا الميزان حتى عند تسجيله فائضاً، يبقى هذا الفائض أقل بكثير من خدمة الدين العام التي بلغت 4700 مليون دولار أميركيفي العام 2015.

من هذا المُنطلق نستنتج أن الدولة اللبنانية ولسدّ خدمة دينها العام، تحتاج إلى الإستيدان وبالتالي تزيد من خدمة الدين العام. وحتى في حال إعتبرنا أن لا عجز في الموازنة تبقى حاجة الدوّلة اللبنانية إلى الإستيدان لسدّ خدمة الدين العام موجودة ولا يُمكن الخروج من هذه الدائرة المُفرغة، إلا عبر تحفيز النمو الاقتصادي إلى درجة يكون هذا الأخير أعلى من معدّل الفائدة على الدين العام أي 7.5% !لكن هل هذا مُمكن في ظل الوضع السياسي والأمني الحالي؟ الجواب بالطبع لا أو بالأحرى صعب جداً لكن أقلّه على الحكومة البدء بعملية تقشفية كبيرة على صعيد الإنفاق الجاري والذي يُشكّل أكثر من 95% من إجمالي الإنفاق العام، وبالتحديد البنود "دعم مؤسسة كهرباء لبنان"، "النفقات التشغيلية"، و"النفقات الأخرى". فخدمة الدين العام لا يُمكن المسّ بها، كذلك الحال بالنسبة للأجور والتعويضات في القطاع العام، لكن أقلّه يُمكن للدولة وقف التوظيف بالشكل الذي تعتمده والإلتزام بتوظيف بديل للمتقاعدين. كل هذا ضمن موازنة يتمّ التصويت عليها لوقف المجزرة التي تُرتكب بحق المال العام نتيجة الصرف على أساس القاعدة الإثني عشرية. هذه الإجراءات في حال تمّ تنفيذها، ستُمكّن الدولة من لجمّ تزايد خدمة الدين العام التي قد يؤدي إنفجارها، غير البعيد في الوقت، إلى إنفجار الدين العام وبالتالي إفلاس لبنان.