(مقال مترجم للفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك)

في آخر حياته، طرح فرويد السؤال الشهير "ماذا تريد المرأة؟"، واعترف بحيرته في مواجهة لغز الحياة الجنسية الأنثوية. فيما تبرز حيرة مماثلة اليوم، بمناسبة استفتاء الـ"بريكست": ماذا تريد أوروبا؟

تصبح الرهانات الحقيقية لهذا الإستفتاء واضحة متى حددنا موقعه في السياق الأوسع التاريخي. فهناك دلائل في أوروبا الغربية والشرقية على إعادة ترتيب في المدى البعيد للمشهد السياسي. وحتى وقت قريب، كان يستأثر بالفضاء السياسي إثنان من الأحزاب الرئيسية التي تخاطب الهيئة الإنتخابية برمتها، وهما حزب يمين الوسط (المسيحي الديمقراطي، الليبرالي المحافظ، الشعبوي)، وحزب يسار الوسط (الإشتراكي، الإشتراكيين ديمقراطية)، إضافة الى الأحزاب الصغيرة التي تخاطب إطار أضيق من الناخبين (البيئيين، الفاشيين الجدد). واليوم، يبرز حزباً منفرداً ليمضي في سبيل الرأسمالية العالمية وهو الذي يبدي تسامح نسبي تجاه قضايا مثل الإجهاض وحقوق المثليين والأقليات الدينية والإثنية؛ ويقف في معارضته الحزب الشعبوي المناهض للمهاجرين والذي يسير في فلكه جماعات فاشية وعنصرية جديدة.

بولندا هي المثال الأبرز على ذلك، فبعد اختفاء الاحزاب الشيوعية هناك، سيطرت الأحزاب "المعادية للأيديولوجيا"، كالأحزاب الليبرالية الوسطية لرئيس الوزراء السابق دونالد تاسك (الرئيس الحالي للمجلس الأوروبي) والحزب المسيحي المحافظ لأخوّة كاتشينسكي (التوائم المتماثلة اللذان سيطر أحدهم على منصب رئيس بولندا 2005-2010 والآخر على منصب رئيس الوزراء 2006-2007). وتبقى رهانات الراديكاليين اليوم هي: أي من الحزبين الرئيسيين، المحافظين أو الليبراليين، سينجح في تقديم نفسه على أنه يجسد مرحلة ما بعد الأيديولوجيا، ويجسد الموقف العابر للسياسة، ضد الطرف الآخر الذي يجري التخلي عنه على اعتبار أنه "لا يزال قابعاً في خيالات الأيديولوجيا القديمة"؟ وفي أوائل التسعينيات كان المحافظون الأفضل من هذه الناحية. وفي وقت لاحق، بات اليساريون الليبراليين هم اللذين يتمتعون باليد الطولى، والآن يعود المحافظون مرة أخرى.

هذا وتأتي الشعوبية المعادية للمهاجرين اليوم بحنين للعودة إلى السياسة، تتحدث بمنطق الندية والمخاصمة، منطق الـ"نحن" ضد الـ"هم"، وتبرز احدى مؤشرات الاضطراب بين ما تبقى من يسار في فكرة لديهم بالاستحواذ على هذا النهج العاطفي من أطراف اليمين: "إذا كان زعيم الجبهة الوطنية الفرنسية مارين لوبان يستطيع ان يفعل ذلك، فلماذا لا يجب علينا أن نفعلها نحن؟" لذا يجب على اليسار العودة لمناصرة الدولة القومية القوية والقيام بتعبئة المشاعر الوطنية... ما سيشكل صراعاً مثيراً للسخرية، وخاسر قبل أن يبدأ.

وباتت أوروبا اليوم تتخبط في حلقة مفرغة، متأرجحة بين تكنوقراط بروكسل الغير قادرين على اخراجها من جمودها، وما بين الغضب الشعبي ضد هذا الجمود، حالة من الغضب العارم من قبل الحركات اليسارية الجديدة الأكثر راديكالية ولكن قبلهم من قبل الشعبوية اليمينية. وقد تحرك استفتاء "بريكست" على خطى هذه المعارضة الجديدة لذا كانت تشوبه الكثير من العيوب. انظروا إلى التحالفات الغريبة لمن وجدوا أنفسهم معا في مخيم الـ"بريكست": اليمينيون الـ"وطنيون"، القوميون الشعبيون المعبؤون بالخوف من النازحين، ويدخل في الخليط أيضاً غضب الطبقة العاملة اليائسة... أليس هذا المزيج من عنصرية وطنية وغضب الناس العاديون الأرضية الأمثال لشكل جديد من الفاشية؟

هنا لا يجب أن تخدعنا شدة الاستثمار العاطفي في الاستفتاء، فالخيار المقدم يعمي عن الأسئلة الحقيقية مثل: كيف نحارب "اتفاقات" التجارة مثل الشراكة التجارية والاستثمار عبر الأطلسي (TTIP) التي تمثل خطرا حقيقيا على السيادة الشعبية وكيفية مواجهة الكوارث البيئية والاختلالات الاقتصادية التي تولد الفقر والمزيد من الهجرة. اختيار الـ"بريكست" يعني انتكاسة خطيرة لهذه الصراعات، اذ يكفي أن نضع في اعتبارنا أن ما اعتُبر حجة هامة للـ"بريكست" كان "تهديد اللاجئين". استفتاء الـ"بريكست" هو الدليل القاطع بأن الأيديولوجيا (بالمعنى الماركسي القديم أي "الوعي الزائف") لازالت على قيد الحياة وبصحة جيدة في مجتمعاتنا.

في الأيام التي سبقت الاستفتاء، كان هناك تفكير شبه عميق متداول في وسائل إعلامنا: "مهما كانت النتيجة، فإن الاتحاد الأوروبي لن يكون هو نفسه، وسيكون معطوبا على نحو لا يمكن إصلاحه"، ولكن العكس هو الصحيح: فلا شيء تغير فعلا، عدا أن حالة الجمود، أي تلك الدائرة المفرغة التي تعيش فيها أوروبا، بات من المستحيل تجاهلها. وستهدر أوروبا وقتها مرة أخرى في المفاوضات الطويلة الأمد بين أعضاء الاتحاد الأوروبي، والذين سيستمرون في جعل أي مشروع سياسي على نطاق أوسع غير قابل للتطبيق. هذا ما لم يراه أولئك المعارضون للـ "بريكست".. وهم مصدومون، يشتكون الآن من "اللاعقلانية" لدى الناخبين الذين صوتوا لصالح الـ"بريكست"، ويتجاهلون الحاجة الماسة للتغيير التي جعلها التصويت اكثر وضوحاً.

و لا يقتصر الارتباك الذي يكمن وراء استفتاء الـ"بريكست" على أوروبا بل هو جزء من عملية أكبر بكثير في  أزمة "تصنيع الرضا الديمقراطي" في مجتمعاتنا، ويكمن في اتساع الهوة بين المؤسسات السياسية والغضب الشعبي، الغضب الذي أنجب دونالد ترامب وأنجب كذلك ساندرز في الولايات المتحدة. وتبدو مؤشرات الفوضى في كل مكان-فالجدل المستجد في الكونغرس الاميركي بشأن السيطرة على حياذة السلاح قد جرّ الى اعتصامات واحتجاجات من قبل الديمقراطيين- فهل حان وقت اليأس؟

أستذكر هنا شعار ماو تسي تونغ القديم: "كل شيء تحت السماء هو في فوضى مطلقة؛ الوضع ممتاز." هناك أزمة قادمة لابد أن تؤخذ على محمل الجد، من دون أوهام، ولكن أيضا باعتبارها فرصة يجب استغلالها بالكامل. وعلى الرغم من أن الأزمات مؤلمة وخطيرة، فهي الأرضية التي يجب أن تخاض عليها المعارك وتربح. وهل ما من صراع في السماء أيضا، أليست السماء أيضا منقسمة، وهل الارتباك المستمر لن يقدم فرصة فريدة من نوعها للرد على الحاجة إلى تغيير جذري بطريقة أكثر ملائمة مع المشروع الذي سيكسر الحلقة المفرغة لتكنوقراط الاتحاد الأوروبي والشعبويين القوميين؟ التقسيم الحقيقي لسماءنا ليس بين التكنوقراط قليلي الدم وأصحاب الشغف القومي، ولكن بين الدائرة المفرغة للاثنين معاً من ناحية والمشروع الأوروبي الجديد الذي سيعالج التحديات الحقيقية التي تواجه البشرية اليوم من ناحية أخرى.

الآن وعلى أصداء فوز الـ"بريكست"، تتضاعف الدعوات لخارجين آخرين من الاتحاد الأوروبي في جميع أنحاء أوروبا، وتبدو الحاجة ماسة إلى مثل هذا المشروع، فمن سيأخذ هذه الفرصة؟ للأسف، لن يكون اليسار الحالي والذي يعرف عنه أنه لا يفوت فرصة على أي تفويت للفرص.