بالإضافة إلى الجوانب الدينية والروحية لشهر رمضان المبارك، فإن هناك جوانب اقتصادية كبيرة لها انعكاسات على حياة الناس المعيشية وترتبط بالإنفاق والاستهلاك وما يترتب عليهما من تأثيرات على المؤشرات الاقتصادية العامة، بما فيها العرض والطلب ومستويات الأسعار، وبالأخص في تلك البلدان، كالبلدان العربية التي تعتمد بصورة شبه تامة على الواردات في تلبية احتياجاتها من المواد الغذائية.

أما وقد انقضى هذا الشهر الفضيل وبسرعة، كما هي العادة مع الأوقات الجميلة وأهلّ العيد المبارك، فإن مراجعة العديد من الممارسات الاتفاقية والاستهلاكية تشكل ضرورة موضوعية في ظل عالم يموج بالأزمات والنقص في الإنتاج الزراعي وارتفاع الأسعار، سواء نتيجة لاحتكار تجارة بعض السلع أو بسبب التغيرات المناخية والتي أضرت بالمحاصيل الزراعية.

لذلك، فإن الاستمرار في الممارسات الاستهلاكية الخاطئة في ظل هذه الظروف والأزمات سيضاعف من الخسائر الاقتصادية وستكون له انعكاسات على مجمل الأوضاع الاقتصادية ومؤشراتها، كالخلل الذي يمكن أن يصيب الميزان التجاري والادخار وما يمثله من أهمية للتنمية الاقتصادية.

وعلى العكس من الجوانب السامية للصيام والتي يفترض معها التقليل من معدل الاستهلاك ومساعدة المحتاجين، فإنه يلاحظ ارتفاع هذا المعدل الاستهلاكي بصورة جنونية، خصوصا الأغذية في شهر رمضان، علما بأن جزءا كبيرا من الأغذية يجد طريقه لسلال النفايات، مما لا يستقيم وتعاليم شهر رمضان المبارك.

ومرة أخرى لندع الأرقام تتحدث، فمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة "الفاو" قدرت ظاهرة الهدر الغذائي العالمي بـ 1.3 مليار طن بقيمة تتجاوز التريليون دولار في عام 2011، حيث تستحوذ البلدان العربية والخليجية على جزء مهم من هذا الهدر، إذ يصل معدل النفايات اليومي للفرد في البلدان الغنية إلى 2 كيلو غرام، وهو ما يشكل عشرة أضعاف معدله في البلدان الفقيرة والبالغ 200 غرام للفرد الواحد.

وفي هذا الصدد يمكن القول إن الوقت قد حان لتفعل الحكومات سياسات ترشيد الاستهلاك، على اعتبار أن الاحتياطيات المالية الضخمة للبلدان الخليجية والناجمة عن ارتفاع أسعار النفط لا يمكن أن تضمن على المدى الطويل الأمن الغذائي الذي تستغله بعض الأطراف الدولية للابتزاز السياسي، وبالأخص من قبل المصدرين للمواد الغذائية.

ويتحمل المستهلك الفرد القدر الأكبر من هذا الهدر، حيث يمكن في هذا الجانب الاقتداء بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عندما مر برجل يتوضأ، فقال له اقتصد في الماء، فرد الرجل بأن الماء وفير يا رسول الله، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: حتى وإن كنت عند نهر جار. حيث تحمل هذه الرواية الكثير من المعاني والحكم والتعاليم التي توضح الاستهلاك العقلاني والمحافظة على الموارد والنعم وحفظها للأجيال القادمة التي تملك نصيبا فيها.

وهنا دعونا نتساءل ماذا يعني التريليون أو الألف مليار دولار التي هدرت في العام الماضي من جراء الاستهلاك غير الرشيد؟ إن ذلك يعني من ضمن أمور عديدة توفير الغذاء لكافة الجائعين في العالم والذين يموت الكثير منهم، وبالأخص الأطفال بسبب الجوع وسوء التغذية، كما أن ذلك يعني إقامة آلاف المشاريع التنموية وتوفير ملايين فرص العمل للعاطلين والمساهمة في الحد من تدهور الأراضي الزراعية والتخفيف من التغيرات المناخية الضارة.

أما في البلدان المستوردة للغذاء، كالبلدان العربية، فإن ذلك يعني تقليل الضغوط على الميزان التجاري والذي يعاني من العجز في العديد من هذه البلدان، في الوقت الذي يساهم ذلك في البلدان الغنية، في زيادة الادخار وتوظيف المدخرات لإقامة المزيد من المشاريع التنموية التي يمكن أن تساهم في تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على الثروة النفطية الناضبة ويجنبها الابتزاز السياسي ويقلل من الضغوط التي تواجهها بسبب المضاربات على أسعار المواد الغذائية في أسواق السلع العالمية.

هذا جزء فقط من الصورة الخاصة بالإسراف في الاستهلاك، خصوصا في شهر رمضان المبارك، أما الصورة الشاملة، فإنها أكثر خطورة وسوداوية من الناحيتين الاقتصادية والأمنية الغذائية، مما يتطلب دراسة هذه الظاهرة ونشر ثقافة جديدة للاستهلاك ترمي إلى مساهمة أفراد المجتمع في الحد من الإهدار، سواء في استهلاك الغذاء أو الموارد الضرورية الأخرى، كالطاقة والمياه.

والحال، فإن نجاح ​ثقافة الاستهلاك الواعي​ سيكون له انعكاسات اقتصادية واجتماعية كبيرة، علما بأن هذه المسؤولية لا تقع على عاتق جهة دون غيرها، إذ إن ثقافة الاستهلاك العقلاني هي مسؤولية تشمل المؤسسات الرسمية والخاصة ومؤسسات المجتمع المدني والتربية الأسرية، حيث ستنعكس نتائجها الإيجابية على أفراد المجتمع ككل وعلى اقتصادات الدول، مع تمنياتنا للجميع بعيد سعيد وصحة دائمة وعالم يسوده الوئام والسلام والتنمية المستدامة لما فيه خير الجميع