تتداول الأوساط الرسمية أن هناك تهديد جدّي لليرة اللبنانية في حال تأخر لبنان عن إقرار بعض القوانين قبل نهاية العام. هذا التصريح وحده كافٍ لهزّ الأسواق، فما الذي يدفع إلى هذا التصريح وهل هناك من خطر فعلي على الليرة اللبنانية؟

على غير عادتي في كتابة المقالات، أُعطي الجواب في أول المقال وسأبرره لأن هذا الموضوع لا يحمل التسييس ولا أعصاب اللبنانيين تحمل هزّات أخرى.

كلا لا خطر على الليرة اللبنانية أقله في الأعوام القادمة. وهذا الجواب سنبرّره على ثلاثة أصعدة: البيانات التاريخية لسعر صرف الليرة، التقييم النقدي لإحتياط مصرف لبنان، والنشاط الاقتصادي.

سعر صرف الليرة...

يُعدّ الإقتصاد اللبناني إقتصاداً حراً (منصوص عليه في الدستور)، وهذا الأمر يفرض سعر ليرة حرّ. إلا أن الإقتصاديين غير متفقين على هذا الموضوع حيث هناك من يُدافع عن هذه النظرية بحكم أن تثبيت سعر صرف الليرة له كلفة عالية وبالتالي يحرم الإقتصاد من أموال كانت لتُستثّمر فيه. وهناك الرافضين لهذه الفكرة والذين يعتبرون أن تثبيت سعر صرف العملة هو أساسي في الإقتصادات في طور النمو من ناحية أن تثبيت سعر صرف النقد يمنع الإفراط في طبع العملة وبالتالي يُحافظ على الثروة المخلوقة عبر المحافظة على قيمتها.

وأثبت الباحثين "أندرسون" و"كارلسون" من خلال دراسة البيانات التاريخية أن تأثير السياسة النقدية على النمو الاقتصادي أقوى ومفعولها أكبر من السياسة المالية للحكومة. وهذا ما نراه في حالة الاقتصاد الأميركي حيث أنه وبين العامين 1953 و1976 كان تأثير السياسة النقدية كبير وإيجابي. من هنا عمد الإحتياطي الفديرالي الأميركي إلى وضع سوق العمل في أولويات أهدافه. كما أثبت بعض الباحثين أن الثبات النقدي هو أساسي في الإقتصادات التي تشهد عدم ثبات سياسي تماماً كحال لبنان.

وفي النظر إلى البيانات التاريخية لسعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، نرى أنه ومع وصول الأزمة المالية العالمية إلى لبنان (الأزمات تنتقل على شكل موجوات بفارق وقت يرتبط بحسب نسبة التبادل التجاري والمالي مع الدولة أساس الأزمة)، إهتزّ سعر صرف الليرة مقابل الدولار وإستمر الوضع إلى ما بعد نشوب الأزمة السورية. لكن ومنذ تشرين الثاني 2011، يشهد سعر صرف الليرة اللبنانية ثبات مع تأرجحها حول سعر الصرف الرسمي (1507.5 ل.ل لكل دولار). ومنذ أوائل تشرين الأول عام 2015، يشهد السوق اللبناني زيادة في الطلب على الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية لكن هذه الزيادة تبقى ضمن المعقول ومع الإحتياط الهائل للبنان من العملات الأجنبية والذهب، لا خوف من هذه الزيادة.

التقييم النقدي لإحتياط مصرف لبنان...

يُعدّ لبنان من الدول التي تمتلك إحتياطاً مهماً نظراً لحجم الاقتصاد ولنسبة الذهب من الإحتياط الأجنبي. وبالنظر إلى تصنيف الدول بحسب إحتياطها من الذهب والعملات الأجنبية، نرى أن لبنان من الدول التي تملك مرتبة مرموقة. فعلى صعيد الذهب، يحتل لبنان المرتبة 19 كأكثر الدول التي تملك ذهباً مع 287 طن متقدماً بذلك على العديد من الدول كالنمسا، وإسبانيا، وبلجيكا والسويد. ويبلغ إحتياط مصرف لبنان من العملات الأجنبية، 33 مليار دولار أميركي (آب الماضي). وهذا يعني أن إحتياط لبنان الإجمالي يوازي تقريباً الناتج المحلّي الإجمالي.

وبذلك هناك ضمانة شبه أكيدة على قدرة مصرف لبنان على الدفاع عن الليرة اللبنانية بدون أي إشكال أقلّه لعام كامل (توقعاتنا تقول بأن لبنان لا يخشى ضرب الليرة قبل 4.75 سنة). وبالتالي ومع الأدوات المالية الموجودة حالياً (Collateral)، هناك إمكانية لتخطّي الأزمات المالية التي تتربص بلبنان (لكن ليس الأزمات الاقتصادية).

النشاط الاقتصادي...

إن مشكلة الليرة اللبنانية تكمن في إنعدام النمو الإقتصادي كما والعجز المزمن في المالية العامة. هذا الأمر نابع من المبدأ الاقتصادي أن العملة تعكس ثروة البلد صاحب العملة. فغياب النمو الاقتصادي لا يسمح لهذا الإقتصاد بإمتصاص العجز في الموازنة العامة ما يفرض زيادة الدين العام وبالتالي خفض التصنيف الإئتماني للبنان ما يعني زيادة في سعر الفائدة. إلا أن الوحدة المصرفية خلف سياسة حاكم مصرف لبنان، سمحت للدولة اللبنانية بتمويل عجزها عبر الإستيدان من هذه المصارف وبالتالي تخطت عتبة الإفلاس المالي الذي كانت لتواجهه حكماً لو أنها تقترض في الأسواق العالمية.وبالنظر إلى إحتياط مصرف لبنان، نرى أن مصرف لبنان إستطاع ببراعة زيادة الإحتياط من 17 مليار دولار أميركي في العام 2007 إلى أكثر من 45 مليار دولار أميركي في العام 2012. لكن تردّي الوضع الاقتصادي وزيادة العجز في المالية العامة دفعت إلى إنخفاض هذا الإحتياط ولكن بنسبة قليلة.

لماذا الحديث إذاً عن إنهيار الليرة اللبنانية؟

إن المطلوب اليوم من المجلس النيابي - وهذا هو أساس المُشكلة لحاكم مصرف لبنان -  إقرار قوانين مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. وعدم إقرار هذه المشاريع سيدفع بالمصارف العالمية لوقف التعامل مع لبنان بحكم أنه أصبح على لائحة الدول غير المُتعاونة. وهذا الأمر قد يُشكّل تشريع ضرورة، إلا أنه لا يُمكن أن يكون سبباً كافياً لإنهيار الليرة اللبنانية. ولا أحد يُمكنه إثبات هذا الأمر مع العلم أنه من الواجب على الدولة اللبنانية إقرار هذه المشاريع إذا ما أرادت تجنّب الإنعزال على الساحة العالمية.

أما التحدّي الثاني الذي تواجهه المصارف اللبنانية، فهو تخفيض التصنيف الإئتماني للبنان وهذا سيفرض إعادة رسملة المصارف بما يتناسب مع معايير بازل 3. لكن هذا الأمر ليس بمشكلة كبيرة نظراً للسيولة الضخمة التي تتمتع بها المصارف اللبنانية خاصة أن حاكم مصرف لبنان كان قد طلب من المصارف حجز 25% من أرباحها.

لذا نرى أن الإتجاه هو نحو تضخيم الواقع لأهداف سياسية. والأحرى بالمعنيين إنتخاب رئيس للجمهورية وإقرار الموازنة التي قدّمها وزير المالية مع بعض التعديلات.