هكذا بدأت أزمة الدين السيادي في ​اليونان​، بعدما تم انتخاب حكومة جديدة كشفت أواخر العام 2009 عن تزييف الحسابات القومية للدولة في عهد الحكومة السابقة لها، ليتبيّن بعد ذلك وقوع الميزانية في عجز يصل الى نحو  13.6%، فضلاً عن ديون تصل نسبتها الى 115% من الناتج المحلي الإجمالي. ما اضطر الحكومة آنذاك لطلب تفعيل خطة إنقاذ تتضمن قروضاً من "​الاتحاد الأوروبي​" و"صندوق النقد الدولي"، لتمكينها من تجنب خطر الإفلاس. مباشرةً، بدأت معدلات الفائدة على السندات اليونانية ترتفع بشكل قوي، بسبب تخوّف المستثمرين من عدم قدرة الدولة على الوفاء بديونها، خاصة في ظل ارتفاع معدل عجز الموازنة والتضخّم الحاصل في معدلات الدين العام.

وطبعاً ، لم يكن ​الاقتصاد​ اليوناني قبل الانضمام الى "الاتحاد الاوروبي" في حال أفضل، حيث أن الدولة كانت وما تزال تعاني من سلسلة مشاكل اقتصادية مجتمعة ، تتمثل في صعوبة المحافظة على معدلات النمو، وضبط وإيقاف ارتفاع الديون المتراكمة، الى جانب اخفاقات الحكومات المتتابعة في السيطرة على الانفاق العام.

يُذكر أن هذه المشكلة لم تعاني منها اليونان وحدها، فإيرلندا وإسبانيا والبرتغال وقبرص كلها كانت بلغت حافة الإفلاس في السابق، إلا أن الدعمَين الأوروبي والدولي ساهما في إنقاذ اقتصادات هذه الدول، لتتمكن بعد ذلك من إنهاء برامجها في الوقت المحدد. وقد حصلت اليونان كذلك على حزمات إنقاذ من الدول الأعضاء في "الاتحاد الاوروبي" و"صندوق النقد الدولي"، إلا أن ذلك عاد عليها بشكل سلبي، حيث ترتب من جرائه ديوناً عالية جداً يصعب على الدولة سدادها.

أما حكومة رئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس، فقد حاولت جاهدة إنقاذ البلاد من الغرق، لكن الحمل بقي أكبر من طاقتها. فالاقتصاد اليوناني ينازع مرضّه وهو في قلب العاصفة، ما دفع الحكومة لعمل استفتاء شعبي توقّعت منه أن يرفض الشعب الخضوع لإرادة الدائنين، (وهو ما حصل). واليوم يطالب تسيبراس الدائنين بخطة إنقاذ جديدة، رغم انتهاء المهلة المحدّدة للسداد.

الى هنا، تبقى المشكلة داخل الحدود اليونانية، فهل من الممكن أن تهدد هذه ​الأزمة​ الاقتصادية في بلد أوروبي صغير كياناً اقتصادياً ضخماً يعد الأكبر في العالم..؟! وهل ستؤثر هذه الأزمة على استقرار منطقة ​اليورو​؟ أو إخراج اليونان الغارقة في الديون من "الاتحاد الاوروبي"؟ وماذا سيترتب على ذلك من تداعيات حال حصول الامر؟

بهذا الصدد، كان لنا حديث مع البروفسور والخبير الاقتصادي والاستراتيجي جاسم عجاقة، الذي قال: "بعد أن كانت نتيجة الاستفتاء "لا"، صارت الأمور أكثر تعقيداً، فاليونان تبقى قطعة من منطقة اليورو مهما حصل، وسيقبل الأوروبيون بالعودة الى اجراء مفاوضات، كما يمكن أن يخففوا من شروطهم.. لكن من غير المتوقع أن يقبلوا بخروجها من "الاتحاد الأوروبي". كما أنه لا توجد في اتفاقات الاتحاد أي آليات تحدد كيفية خروج دولة ما من منطقة اليورو.. هناك شروط للدخول لكن لا يوجد شروط للخروج".

واضاف "في حال أصر "الاتحاد الاوروبي" على استرجاع أمواله من اليونان، ولم يعطِ البنوك اليونانية ما تحتاج من أموال، هنا ستتجه الدولة الى اصدار عملة وهمية (على الورق)، لتنسحب بذلك من منطقة اليورو، وهذا ليس أمراً سهلاً.. لأنها تكون قضت على اقتصادها، ولن يكون في عملتها الجديدة أي ثقة على الصعيد الدولي. لكن السؤال هو "لماذا لن يقبل الأوروبيون أن تصل اليونان الى هذه المرحلة؟"، ببساطة، لأن أساس العملة هو الثقة، والعملة التي لا ثقة لها، لا قيمة لها".

واوضح "سترتفع قيمة اليورو في حال انسحبت اليونان من "الاتحاد الاوروبي"، لأن أوروبا ستخرج بذلك من خسارتها وتردم بئراً مثقوباً كان يستنزفها، لكن فعلياً سيعاود اليورو الهبوط سريعاً بسبب المصداقية، لأنه كان مرشحاً لأن يكون خليفة الدولار الأميركي في المعاملات الدولية، وبهذه الحالة لن يكون موجوداً، لأنه سيفتقد للثقة. ثم إذا خرجت اليونان من "الاتحاد الاوروبي" فما الذي يضمن عدم خروج دول أخرى منها ألمانيا مثلاً.. فخروج اليونان لا يثير القلق كخروج المانيا التي تمتلك اقتصاداً قوياً، وهي غير مضطرة للدفع عن أعباء غيرها.. وعموماً لا يمكن أن تخرج اليونان من منطقة اليورو لأن اليورو سيفقد كل مصداقيته".

وفي سياق متصل، اشار عجاقة الى انه "لا يمكن الجمع بين أزمتي الاقتصاد في اليونان و​لبنان​، حيث لا مجال للمقارنة بين القطاع المصرفي في كلا البلدين لسبب بسيط جداً، هو أن قطاعنا المصرفي يملك أصولاً أكبر بأربع مرات من حجم الاقتصاد، وهي أيضاً أكبر من الدين العام، لذا فالمثل غير مطروح والمشكلة تختلف كثيراً في لبنان عنها في اليونان".

وقال: "اليوم تستحق على لبنان ديون كثيرة، وقد دفع "مصرف لبنان" منذ فترة مبلغ 500 مليون دولار أعطى مكانها شهادات ايداع، أيضاً هناك استحقاقات على الدولة يجب أن تدفعها في أشهر آب وأيلول وتشرين الثاني وكانون الاول، فالسؤال "من أين ستأتي الدولة بهذه الاموال؟"، بما أننا في شلل داخل الحكومة والمجلس النيابي، فلن تتمكن وزارة المالية من توفير هذا المال، وستطلب ذلك من "المصرف المركزي"، إذن القطاع المصرفي اللبناني لا يعاني من نفس المشكلة.. لكن الاشكالية هنا أن هذا القطاع لا يدعم الاقتصاد، الذي لا يقدر على تغطية الدين.. فالعجز يغطّى من خلال النمو ، وفي لبنان لا نمو اقتصادي..!!".

واضاف: "يعتبر العجز عن التمويل عاملاً خارجياً في اليونان، أما الاشكالية الأساسية فهي توقف الاقتصاد.. ونحن نشترك معهم في هذا، اقتصادنا أيضاً متوقف، لكن لا مقارنة بين الحالتين، فعند الموت لن تهم كيفية الوفاة بقدر ما تهم الوفاة بحد ذاتها".

وتابع عجاقة : "طبعاً، لا يمكن القول بأن الاقتصاد اللبناني يموت، لتوفر مصدر قوي جداً ألا وهو القطاع المصرفي، لكن هذا القطاع غير قادر على دعم الاقتصاد، لغياب رئيس للجمهورية بالدرجة الاولى، مما أدّى الى تعطيل المجلس النيابي وعمل الحكومة، وفي حال بقينا على هذه الحال فسيموت الاقتصاد بدون شك، لكن هذا غير متوقع أبداً على المدى القريب، لأن لبنان يتمتّع بالـ "كاش".. ومع أن الدولة اللبنانية لا تملك المال، إلا أن القطاع المصرفي فيها لديه 170 مليار دولار أميركي".

وبالعودة الى الحالة الأوروبية، أوضح عجاقة أن "اقتصاد كل من ألمانيا وفرنسا -أهم دائني اليونان- ضخم، وخسارتهما ديونهما في حال خروج اليونان لن يؤدي الى هبوط العملة الاوروبية الموحّدة، طبعاً سيسجّل اليورو خسارة نحو 300 مليار يورو، لكن تبقى خسارته للمصداقية أكبر بكثير".

وأوضح أن "هناك صدمتين، الاولى ايجابية والاخرى سلبية، فإذا ما تم اغلاق ثقب أزمة اليونان من طرف "الاتحاد الاوروبي"، فإن تسرّب الاموال الاوروبية سيتوقف، ما سيؤدي الى ارتفاع اليورو كصدمة أولى.. لكنه سرعان ما سيفقد مصداقيته في صدمة ثانية أقوى.. نذكر أن اليورو كان أقل من الدولار في السابق لكنه شهد نقلة نوعية سببها أن كثيراً من البنوك الآسيوية استبدلت قسماً كبيرا من احتياطاتها بالدولار لتضعها باليورو، وبذلك قفزت العملة الاوروبية الموحدة بشكل قوي، حتى وصلت في وقت من الاوقات الى 1.6 دولار. واليوم إذا خرجت اليونان من منطقة اليورو، فهل ستبقى البنوك المركزية محتفظة بالكميات الكبيرة من احتياطاتها باليورو، وهل تعاملها مع العملة الاوروبية سيبقى على هذا المستوى العالي من الثقة (طبعاً لا) لهذا يمكن القول بأن الصدمة السلبية الثانية ستكون أكبر من الصدمة الايجابية الاولى، وهذا ما لن يسمح الاوروبيون بحصوله".

واعتبر عجاقة، أن ما يقوم به رئيس الحكومة اليوناني الكسيس تسيبراس يعتبر انتحاراً، لكنه مع ذلك يلعب لعبة ذكية جداً، وهو يعلم ضمنياً أن ضرب مصداقية اليورو أقوى على "الاتحاد الاوروبي" من أزمة ديون اليونان، والتعليقات العالمية تؤكد ذلك من خلال التوضيح بأن التصويت بـ "لا" في الاستفتاء ليس لأوروبا مباشرةً، ولكنه لبرنامج الانقاذ فقط". واضاف: "تسيبراس يعلم أن مصداقية اليورو أهم بكثير من قيمته ومن قيمة الديون اليونانية، وقد ربح بذلك الرهان".