كان أصغر مدير عام في تاريخ لبنان لدى تعيينه -32 عاما-، مدير عام وزارة المالية أي المسؤول عنها وعلى وجه التحديد عن الضرائب، وعن إعداد الموازنة وتنفيذها، ومراقبة الإلتزام، والإنفاق العام والخزينة والدين العام، والمحاسبة العامة، والتدقيق والرقابة على الشركات التابعة للدولة، والإدارة، وتدريب الموارد البشرية.

هو عضو في مجلس إدارة مصرف لبنان، وهو بالتالي شريك في صنع السياسة النقدية. وهو أيضاً عضو في الهيئة المصرفية العليا التي تضم ستة أعضاء. هو رئيس اللجنة المالية لصندوق الضمان الاجتماعي، ومحافظ مناوب لـ"البنك الدولي للإنشاء والتعمير- البنك الدولي"، ورئيس "مجموعة الـ24" حالياً.

قام منذ استلامه للمنصب بالعديد من الإنجازات وعلى مختلف الأصعدة، فعلى صعيد الضرائب، قدم في عام 2002 قانون الضريبة على القيمة المضافة، الذي أصبح نموذجا للعديد من الدول في المنطقة. ثم بدأت إعادة هيكلة النظام الضريبي، الذي أصبح منظماً استناداً للوظائف، وقام بتوسيع قاعدة دافعي الضرائب. وفي عام 2004، تمت إعادة هيكلة الرواتب والضرائب على الأجور. منذ العام 2010، بوشر تنفيذ برنامج الضريبة الإلكترونية.

أما على صعيد الادارة، فنذكر على سبيل المثال إعادة هيكلة وتنظيم مديرية المالية العامة، وتنظيم جديد لمديرية الواردات والمصالح المناطقية ومديرية الموازنة، وإنشاء مديرية للدين العام ومجلس أعلى لادارة الدين.

وخلال المرحلة الإصلاحية، حصل انخفاض للدين العام من 185% إلى 140%، وجرت إدارة للأزمات في الفترة من 2005 إلى 2009، وتم وضع اكثر من اربعين مشروع قانون، منهم للضمان الاجتماعي، وإصلاح نظام معاشات التقاعد، ومشروع قانون الموازنة، ومشروع قانون الإفلاس، وحساب الخزينة الموحد، وقانون الاسواق المالية.

هو ​آلان بيفاني​ المدير العام لوزارة المالية منذ 15 عاماً والذي زارته "الإقتصاد" في مكتبه لمعرفة المزيد عن هذه الشخصية اللبنانية النشيطة، وكان معه هذا اللقاء:

في البداية، ماذا كانت دراستك الجامعية؟

في البداية درست الرياضيات، ثم درست الهندسة الفيزيائية وبعدها الإقتصاد والمال.

إذا هي اختصاصات علمية واقتصادية، هل عملت في جميعها؟

نعم عملت في المجالين، في المجال العلمي في فرنسا في الاتصالات من خلال fibres optiques وتطوير الآلات وكان جزء منها يساهم على سبيل المثال بتطوير telescope Hubble"" الذي قامت فرنسا بجزء منه، كما عملت في البنوك والمؤسسات الاستشارية الأجنبية، وأسست شركتي الخاصة للإستشارات المالية والاستراتيجية.

أي من المجالين أحببت أكثر؟

أعتقد أن المجالين متكاملين، فالإدارة من دون العلم ليست مشوقة. من المهم جداً أن تكون إحدى ميزات من يعمل في المجال المالي والإداري هي الأساس المتين في الرياضيات والمنطق. بالإضافة إلى أن لا أحد يستمر بالعمل في المجال العلمي إذا كان يفكر بالعودة إلى لبنان، الذي كما نعلم ليس ناشطاً في هذا المجال، لذلك كان الإنتقال إلى الإدارة والمال أمراً طبيعياً بالنسبة لي.

إذاً كانت رغبتك بالعودة إلى لبنان هي ما دفعك لأن تترك مجال العلوم؟

ليس تركه ولكن التنويع. كل شيء يحتاج الى العلم والمنطق.

هل تشجع على السفر والعمل في الخارج؟

أنا مع أن يفعل الشخص ما يريد، فالشباب الذين يقومون بأشياء لا يريدونها لا ينتجون، وذلك لأنهم لا يضعون هدفاً أمام أعينهم ويبدأون بالعمل على تحقيقها، وقد يصبحوا عبئاً على مجتمعهم في الحالات القصوى.

اما  مقولة ان على الشباب ان يبقى في لبنان، فلا افهمها اذا كان اللبنانيون يمعنون في عدم توفير البنى التحتية وشبكات الامان الاجتماعية والبيئة المحفّزة للإنتاج. الطموح يحتّم الاستفادة من المناطق التي تحتوي على قيمة مضافة مرتفعة.

ما هي الصعوبات التي واجهتك في حياتك المهنية؟

واجهتني الكثير من الصعوبات في مسيرتي المهنية. في فرنسا لم يكن هناك صعوبات لأنه كان لدي ما أريد، كما أن اللبناني يستطيع التكيف مع الظروف بعكس من يعملون في بلادهم بارتياح كبير وذلك بسبب الصعوبات التي يواجهها في شتى المجالات خلال نشأته. مع الإشارة إلى أن هذا ليس أمراً جيداً دائماً، فاللبناني الآن يتكيف حتى مع الأوضاع الداخلية السيئة التي لا يجب أن يقبل بها.

وبعد ذلك، عندما أسست شركتي الخاصة، ما كان لافتاً ولا زال قائماً حتى الآن وهو من أمراض البلد المستعصية، هو طريقة التعاطي غير المهنية مع الناس. في الخارج، يوقع الشخص عقداً ما، ويشعر بالراحة لأنه قام بتأمين عملٍ لنفسه، أما في لبنان فيحصل على المشروع ويقوم بتنفيذه وبتسليمه وتمر سنوات على ذلك ليحصل على ماله فيما بعد اذا حصل عليه، الأمر الذي نعتبره نحن "تشاطر وتذاكي"، إلا أن هذا دلالة على ان المجتمع لا يفهم مكمن القيمة الفعلية. فأولاً، هذا معناه أنه لا يوجد احترام لمن هو فعلاً فرداً منتجاً، وثانياً هو دلالة على أننا لا نقدر العمل وقيمته. ثانياً، مصيبة بلدنا وهجرة الشباب سببه هو النموذج الإقتصادي الذي نعيش فيه والذي لا يقدر الأشخاص المنتجين. ثالثاً، هناك أشخاص منتجين تبقى رواتبهم ثابتة حتى في ظل ارتفاع الأسعار وتسديدهم للضرائب، وعلى الطرف الآخر هناك من يعيش على صفقات، لا ينتج ولا يؤمن فرص عمل لأحد ولا يدفع ضرائب. هذه من أمراض نظامنا، لولا ذلك لكان وضع بلدنا ممتاز، فنحن مع كل هذه المشاكل والفساد لا يزال لدينا موارد جيدة لأننا بلد غني جداً لكننا نتعرض لعملية "شفط" ممنهجة.

أما في القطاع العام، الصعوبة الأولى التي نواجهها هي أن طريقة تطبيق دستورنا وقوانيننا لا تنطبق على دولة حضارية، فالدولة وظيفتها القوننة، تنفيذ القوننة وتأمين البنية التحتية الأساسية لتحريك الإقتصاد، وهذه عوامل شبه غائبة في لبنان. لذا فالمشاكل الأساسية التي يواجهها دائماً من يعمل في الإدارة العامة هي أنه سيعمل في الإدارة وعلى أساس المنطق الإداري ولكن المنطق والمحيط القانوني والتنظيمي والتنفيذي لم يعد يتلاءم مع المنطق الإداري الصحيح.

إلى أي مدى تستخدم المنصب الذي أنت فيه اليوم لمحاولة إصلاح الوضع؟

في أي إدارة كانت، هناك لكل موظف حد أدنى من الصلاحيات لإحداث فرق إلى الأفضل ولو كان هذا الفرق صغير. هنا في الوزارة، تغيّر الكثير الكثير باتجاه الافضل. مثلاً، لو اخذنا امراً صغيراً  وبديهياً في ادارة الضرائب، فقد كان هناك لائحة مكلفين تتألف من بعض الأشخاص، يدرسون في كل عام، لذا قمنا بتوسيع قاعدة المكلفين أو ما يسمى بالصحن الضريبي بخمسة أضعاف، وضاعفنا المداخيل الضريبية بنسب كبيرة جداً.

وصلنا إلى أحسن ما يرام؟ كلا، لا يزال أمامنا الكثير. ولكن نسبة الإلتزام ارتفعت ما يعني أن العدالة ارتفعت ونقاط الخلل تحددت وهذا يسهل اتخاذ خطوات اصلاحية متتالية.

وأنا أؤكد أن الإدارة اللبنانية إدارة منتجة، فهي لم تحتاج إلى أحد من خارجها لتطبق الـ TVA خلال عام واحد، الأمر الذي لم تستطع القيام به إدارة اخرى في العالم على حدّ علمي. من السهل جداً القول أن الإدارة اللبنانية فاسدة، وأنا أؤكد أن الإدارة اللبنانية هي صورة طبق الأصل عن المجتمع اللبناني أي فيها الكثير من المفسدين والفاسدين، وفيها ايضاً الصالحين الذين يجب الا يتم هدر حقهم.

وبالمناسبة، العديد ممن يتكلمون عن فساد الادارة هم انفسهم فاسدين او مفسدين.

في الإدارة اللبنانية، يوجد مبدعون اقاموا TVA من لا شيء ولم يحتاجوا الى احد من خارج الادارة. هذا الإنجاز  "صنع في الإدارة اللبنانية" كالكثير من المشاريع الأخرى ومنها مشروع الـ"Macro fiscal unit" الخاص بالموازنة الذي لم يشارك أحد به من خارج الإدارة  بشكل مستمرّ. حالياً لا يوجد أي قسم من المالية العامة ليس فيه ورشة عمل اصلاحية. هذا عمل دائم.

وعن انجاز حسابات الدولة، الذي هو أحد أبرز ما يقوم به بيفاني، يقول "منذ العام 2000 وحتى فترة عامين أو ثلاثة من الآن، كنا نطالب بإنجاز حسابات الدولة، كانوا يقولون لنا انه لا يمكن انجاز ذلك، الأمر مستحيل، وهذا تسييس...لماذا يجب ان تكون الدولة اللبنانية الدولة الوحيدة على الكرة الأرضية التي ليس لديها حسابات صحيحة؟ ان كان لديهم مشكلة، فهذا شأنهم ولكن من غير المسموح أن نمنع من انجازها بحسب الاصول والضرورة. الآن، وفي أقل من عامين، أنجزنا تقريباً معظم العمل بالحسابات منذ العام 1997 إلى اليوم وقد اعيد تكوين الحسابات من لا شيء!.  حتى من ناحية المستشارين أيضاً، أتى الفرنسيون، و"البنك الدولي" و"صندوق النقد" وجميعم قالوا لي أنه لا يمكن انجاز هذه الحسابات، ففي العام 1995 لم يستطع أحد إيجاد ميزان دخول العام 1993، فكيف ستقوم بالعمل؟ لكننا وجدنا ميزان دخول العام 1993، اصبحنا على وشك انجاز الحسابات.

اصبحنا الآن في مرحلة انتظار اجوبة السلطات الرقابية ومستندات من مؤسسات وبلديات، وعند استكمالها، سوف نعمل على انجاز نهائي لـ 21 عاماً من الحسابات غير الموجودة وفوارقها بالمليارات.

إلى كم من الوقت يحتاج قطع الحساب؟

لا يمكنني تحديد الوقت بشكل دقيق وأنا ما زلت أكتشف الكوارث ( في الحسابات) كل يوم. القصة ليست قصة تحديد تواريخ، فنحن كمالية عامة احتجنا إلى أشهر لإيجاد مستنداتنا واستردادها وإعادة ترتيبها بعد أن كانت مخزنة في أماكن مختلفة بشكل عشوائي او مفقودة او متلوفة.

ما فعلته فرق عمل المالية العامة شبه معجزة باعتراف كل الجهات الإستشارية التي لم تكن تصدق ما تراه في حينه، وكل هذا طبعاً بفضل بعض الأشخاص في الإدارة الذين "قتلوا حالن" لإنجاز هذا العمل.

عدم وجود موازنة وقطع حساب مخالفتان دستوريتان، يجب ازالتهما بأقصى سرعة، وان اتت ازالة الاولى قبل ازالة الثانية.

لا يوجد موازنة لأسباب الجميع يعرفها وليس بسببنا، فنحن في وزارة المالية تكون الموازنة جاهزة لدينا في 31 آب من كل عام، والباقي يتوقف على السلطات السياسية. وفي العام الماضي حول معالي الوزير علي حسن خليل مشروع موازنة العام 2015 إلى مجلس الوزراء في 30/8/2014، اي ضمن المهلة الدستورية.

في الموازنة التي تتبعونها اليوم، كيف تضعون "الإنفاق الجاري والإنفاق الإستثماري"؟

نحن في الوقت الحاضر قمنا بشيء هام مقارنةً مع السنوات الماضية من الـ2005 إلى 2012 حتى قسم من 2013. وفي 2014 النقلة النوعية الأساسية التي حدثت كانت عدم الصرف بأي طريقة خارج القانون، والإنفاق الإضافي أصبح بحاجة إلى قانون. اما نوع الانفاق، فهو مبوّب بحسب الاصول، وقد انجزنا عملية اصلاحية اخرى بإطلاق التصنيف الجديد الذي بدأنا بتطبيقه.

كيف وجدتم "وحدة" الدين العام؟

تقوم هذه المديرية بعملٍ رائع، تم وضع استراتيجية متوسطة لإدارة الدين العام لم تكن موجودة في السابق، والآن تم وضع استراتيجية ثانية من المفترض أن تقر في مجلس الوزراء، كما وضعنا مخطط تمويل للدولة اللبنانية لمدة 3 سنوات... وتسلَمَت عمل الدين العام الذي كان من المفترض أن تقوم به وزارة المالية منذ سنوات. مع العلم انني اعددت اول مشروع قانون لإنشاء هذه المديرية عام 2004، ولم يصدر المرسوم التطبيقي الا في عام 2012.

ذكرت أنه تم زيادة قاعدة المكلفين، هل تقصد ان  نسبة التهرب الضريبي انخفضت؟

لقد انخفضت بنسبة عالية جداً، الآن لا يوجد أي منطقة لا تدفع ضرائب بكاملها كما كان في السابق، ولكن ما زلنا بحاجة إلى التحسين ليصبح أكثر عدالة. هنا أريد أن أذكر مقولة فظيعة في لبنان عن الضرائب المفروضة على القطاعات وهي "فقط قطاعين في البلد لا زالوا في حالة جيدة حلوا عنن". افرضوا الضرائب على القطاعات الخاسرة في جميع بلدان العالم يحمّلون القطاعات الأكثر ربحية مساهمة اكبر.

ما هي مشاريعك المستقبلية؟

عندما دخلت إلى وزارة المالية، توقعت أن أبقى فيها لمدة 4 أو 5 سنوات لكن بقيت حتى الآن 15 سنة، الأمر يتعلق بالخطط والمشاريع التي يبدأها الشخص وينتظر حتى يتم تنفيذها. وفي لبنان يجب الانتظار طويلاً لتحقيق شيء أي ليتم تنفيذ مشروع وتصدر نصوصه ويبدأ تطبيقه. في عام 2004 (خلال فترة استلام الوزير الياس سابا للوزارة)، تقدمت له بـ44 مشروع قانون (ليست مشاريع صغيرة)، وبعدها تغيرت الحكومة ولكن حتى الآن لا تزال بعض القوانين يتم سنها من هذا المخزون، ومنها لا يزال بالانتظار.   

في اطار العمل، لا زلنا بعيدين جداً عما قد يطمح إليه المرء، لكن أتمنى أن نكمل على طريق يمكن فيه ايجاد المسؤولين عن الوحدات الذين يمكن الاتكال عليهم، وأعتقد أنه حتى اليوم قطعنا شوطاً كبيراً، ونحن بصدد القيام بورشة كبيرة بعملية إعادة التوزيع الضريبي، وهناك موازنة يجب أن تصدر، وليس أي موازنة بل موازنة تساهم بالإصلاح، كما يجب أن ننتهي طبعاً من ورشة الحسابات، ويجب أن نؤمن ديمومة لهذا العمل. نحن بحاجة إلى وحدات جديدة يتم العمل عليها حالياً، كما أننا بحاجة إلى دعم العنصر البشري في الوزارة فنحن لدينا عدد من المشاريع يفوق الثمانين مشروعاً وهو يتطلب العنصر البشري بشكل اكبر مما هو متاح.