يمر لبنان بعد المخاض العسير الذي سبق ولادة الحكومة في فترة دقيقة وصعبة للغاية، تمثلت بتفجر المظاهرات والاضرابات المطالبة بإقرار قانون سلسلة الرتب والرواتب، ومع كثرة التحليلات والتفسيرات حول تفاصيل السلسة، ومع انقسام بالآراء حول مخاطرها ومنافعها على اقتصاد البلاد، وللايضاح حول الآلية التي تمر فيها مراحل اقرار السلسة، كان للنشرة الاقتصادية حديث خاص مع وزير العمل السابق شربل نحاس:

اوضح الوزير  شربل نحاس  ان السلسلة وبكل بساطة هي تصحيح الأجور للعاملين في القطاع العام لم يحصل في خلال 18 عاماً، على الرغم من وجود قانون يلزم الدولة بالقيام به سنوياً هذا في البداية، فلا هي سلسلة ولا هي أي شيء آخر بحسب تعبيره.

وفصل نحاس المسألة الى  نقاط عدة  فقال: النقطة الأولى- لو كنا نتكلم عن سلسلة لكان يعني ذلك اعادة النظر بهيكلية الوظيفة العامة، لكن هذا الامر لم يحصل بتاتاً وتبين ان كل المشاريع الذي صرفت عليها اموال طائلة للتحديث الاداري.وغيره، عندما اتت ساعة التجربة تبخرت وكأنها لم تحصل، وبالتالي الكلام عن مسألة سلسلة الرتب والرواتب، هو كلام مزيف ومزور، المسألة مجرد عملية تصحيح أجور لم تحصل منذ 18 سنة.

واوضح في النقطة الثانية و لكونه لم يحصل خلال 18 عاماً، تراكم حجمه وبدا المبلغ كبيراً جداً كأول ملاحظة، وثانياً، سمحت الفترة الطويلة التي لم يحصل فيها اي تصحيح لاجور بعض الفئات من العاملين في مختلف مؤسسات الدولة بحكم قدرتهم التفاوضية على تحصيل بعض المنافع الجزئية، بدءاً من القضاة واساتذة الجامعة اللبنانية الذين حصلوا على الحد الأقصى من هذه المنافع، مروراً ببعض فئات المعلمين الذين حصلوا على منافع جزئية، وصولاً الى  بعض الاسلاك العسكرية التي ايضاً حصل اعضائها على منافع جزئية، لكن هذا الاختلاف في المواقع لا يلغي بتاتاً جوهر المسألة...، ثالثاً ترافق هذا الاحجام غير القانوني من قبل كل الوزارات التي تعاقبت منذ 1996 حتى اليوم عن تنفيذ الموجب القانوني الموقع عليها، مع امر آخر لا يقل خطورة وهو وقف التوظيف في الادارة العامة، ما يعني افراغ هيكلية الدولة، الى حد بات قيامها بوظائفها الأساسية مهددة، فعدد الموظفين الاداريين اليوم لا يتخطى الـ6000 آلاف من اصل هيكل اداري وضع في ستينيات القرن الماضي وعدد اعضائه يفوق الـ 20 الف، وغالبيتهم باتوا على حافة سن التقاعد، فهذا يعد تفريغ للدولة، وبموازاته حصل امر مشبوه اخر وهو التوسع في ادخال عاملين في اجهزة الدولة المختلفة خلافاً لقانون الموظفين، وتحت تسميات مختلفة تندرج ضمن فئتين:

- فئة من المساكين يسمون اجراء ومتعاقدين ومياوميين وما شابه، وفئة من المستشارين يسمون خبراء ويتمتعون بإمتيازات وبمراتب استثنائية، بنتيجة ذلك حشر في الادارة عدد هائل من العاملين الذين مننهم زعماء الطوائف بادخالهم الى "الدولة"، و في الوقت ذاته اخضعوهم لابشع اشكال الاستغلال من خلال حرمانهم حتى بتسجيلهم في الضمان الاجتماعي، كما وعدوهم بانه في يوم من الايام سوف ينظرون في وضعهم، وهذا خلق مشكلة اضافية فوق المشكلة الأولى وهو تفرغ الدولة، وكله ورثناه فجأة لأن المؤامرة التي دامت 18 عشر سنة، توقفت مفاعيلها بمجرد ان فرضت العودة الى تطبيق تصحيح الاجور كما حصل في نهاية 2011.

وأشار نحاس الى انه ما ان فتح الموضوع حتى بدأ التخبط بين حكومة عاجزة شعارها النأي بالنفس وكسب الوقت والمناورات الفارغة، وهي اخلت بأبسط موجبات وجودها الا وهو وضع موازنة للدولة، وبين مجموعة من القوى السياسية كانت قد غطت جميعها الارتكاب المتمادي السابق، وشاركت في تنفيع الازلام واستغلالهم في الوقت ذاته، اضافة الى تراكم الحالات الجزئية، وغياب اي تصور عام لشيء طالما افتقدناه وهو الدولة اللبنانية.

وأكد انه في خضم هذا التخبط قام البعض، بإغداق الوعود، للجان الفرعية ووزراء معنيين وغير معنيين واطراف سياسية، وصولاً الى اتخاذ قرارات في مجلس الوزراء، دون ان تترجم هذه القرارات، بأي فعل بتاتاً، وبما ان هذه الحكومة السابقة ، لم تكن ترى نفسها ملزمة بوضع موازنة، حيث يأتي بند الأجور في اول بنود الانفاق، وبالتالي يتوجب على الحكومة، اقتراح التوازن الاجمالي لايرادات ونفقات الموازنة، ابتدعت بدعة تمويل السلسة، وطالما انها تظن ان بالوعود الفارغة، تستطيع شراء الوقت لم يكن احد يحاسبها، ولما تبين ان حركة هيئة التنسيق فوضى وطويلة النفس، واثبتت لأول مرة في تاريخ هذا البلد، ان حركة نقابية فعلية مستقلة، قادرة على تخطي المناورات والالتفافات السياسية ومساعي شقها، وصولاً الى القيام بأكبر اضراب في تاريخ لبنان في الادارة العامة، اضطرت هذه الحكومة مرغمة، البحث في الواردات.

وقال نحاس للنشرة الاقتصادية كذلك :  لم تتأخر جماعات المال والعقارات في نزولها بقدها وقديدها، لتقول "نحن نطاع ولا نطيع" عندها، فاقترح ميقاتي وجماعته  الحيل، طابق اخضر من هنا، ورسوم كتاب عدل من هناك، وضرائب على "السمك والكفيار" وما شابه ذلك، وسانده الصفدي، بان ادخل في سلة البدائل، مخالفات بناء، واعفاء المضاربين في العقارات من الضرائب القليلة التي تطالهم بحجة اعادة تقييم الأصول، وتسوية مخالفات إحتلال الأملاك العامة البحرية، وهو من فاعليها، وبعد اشهر من الممطالة، ارسلت الحكومة من قبلها بعد اربعة اشهر استقالتها ما اسمته مشروع السلسة الى مجلس النواب.

واضاف جبد  ان المباحثات  الخارجية لم تأتي بسرعة لتشكيل حكومة تمام سلام، فنامت المسألة عشرة اشهر، وخلال هذه الفترة احال رئيس المجلس الموضوع الى اللجان المشتركة، التي ألفت لجنة مصغرة برئاسة النائب ابراهيم كنعان فإنكبت على الموضوع، واعادة تصويب الطرح بقولها:

1-ان المسألة مسألة تصحيح اجور ببن نهاية 1995 ونهاية 2011، بنسبة 121% وفقاً للرقم المقرر في لجنة المؤشر وفي الحكومة، وهذا بالتالي حق ثابت.

2-درست الايرادات المزعومة التي كانت قد ارسلتها الحكومة، فأوقفت اعمال "اللصوصية" التي كانت الحكومة قد حشرتها في مشروعها، وتركت للمجلس النيابي الخيار بين مجموعة من مطارح التكليف.

3-الغت الادعات الاصلاحية الاستعراضية التي كانت حكومة ميقاتي قد خلفت بها فعلتها، وانتقل الموضوع الى اللجان المشتركة.

واشار نحاس، هنا عادت الكتل الطائفية الى حالة الارباك التي كانت قد عرفتها قبل ولادة الحكومة، وانبرت مجدداً جمعيات المضاربين بالمال والعقار، لتكرر انها لم تدفع فلساً واحداً من الارباح التي تجنيها دون عمل ودون انتاج ودون خلق اي فرصة عمل، وانها تطاع ولا تطيع، فانقسمت الكتل السياسية الطائفية، بحسب اوضاع كل منها، فـ من شعر انه يستطيع قمع جماعته بين المعلمين والموظفين جاهر بولائه لجمعيات المضاربين فقال لا للسلسلة، ومن لم يستطع تجنب احراجه، الداخلي مع جماعته بين الموظفين والمعلمين، راح يبحث عن الحيل، فساعة يتبين ان الارقام غير متطابقة، وساعة يدعي الاستعانة بخبراء مأجورين ومزعومين، وساعة يضطر للسفر ويغيب ويضطر للتأجيل، ويعلل ذلك بحرصه، على احترام الاستحقاق الدستوري، وهو ذاته جدد لنفسه خارقاً الدستور دون خجل او وجل، وصولاً الى فئة ثالثة، من "الثعالب" الذين رأوا في الموضوع فرصةً لصفع المواطنين صفعةً تاريخية، من خلال تحميل مسؤوليتها للموظفين والمعلمين، فراح يقول "برفع الضريبة على القيمة المضافة وبالخصخصة و.."، وما الى ذلك.

وقال: هذا كله في حين ان المسألة واضحة وضوح الشمس، اذ ان النظام الضريبي القائم في لبنان، ليس فقط غير عادل، بل هو ايضاً مضر بالاقتصاد والانتاج وخلق فرص العمل،  لأنه يتيح للمضاربين بالمال والعقار تحقيق ارباح تقارب 10 مليارات دولار في السنة، دون ان يدفعوا قرشاً واحداً من الضرائب، على عكس الاجراء وعلى عكس اصحاب الرساميل، الذين يقومون بإستثمار اموالهم، من خلال نشاطات اقتصادية فعلية تؤمن فرص العمل للبنانيين، وبالتالي تصبح مسألة تصحيح النمط الإقتصادي من خلال تعديل النظام الضريبي، مسألة قائمة بذاتها لا تقل اهمية عن تصحيح اجور الموظفيين، لا بل ربما تتقدم عليها، ليس فقط لانها تمول السلسلة بل لانها تصحح النمط الاقتصادي والاجتماعي القائم.

وأوضح ان فرض الضريبة بنسبة 15% على الفوائد المصرفية، التي يملك اكثر من ثلاثة ارباع قيمتها بضعة عشرات من المجموعات، وفرض ضريبة بنسبة 25% على الارباح الناجمة عن الارتفاع الجنوني في اسعار الاراضي، كفيلان بـتأمين الغايتين معاً، اولاً تصحيح النظام الضريبي والنمط الاقتصادي، وثانياً تمويل سلسلة، اضافة الى خدمات اخرى نذكر منها التغطية الصحية الشاملة، والاستثمارات العامة في النقل والطاقة والمياه.

وختم قائلاً ولم يتورعوا طبعاً عن استخدام سبل التهويل، فحين قال حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يأتي ليقول انه: في حال لم تفرض ضرائب، تعيد الانتظام والتوازن لأداء المالية العامة، عندها تكون زيادة الانفاق الممول بالدين ترتب عواقب وخيمة، لكنهم طبعاَ اغفلوا وطمسوا الـ اذا الشرطية التي دونها لا مبرر بتاتاً لعمليات التهويل الجارية على قدم وساق. نحن الآن امام مفصل تاريخي.