يشترط ​صندوق النقد​ و​البنك الدولي​ّان على الحكومات وشركات القطاع الخاص استناداً للأدوار التي يضطلعان بها ، من أجل الإقراض، إجراء ​اصلاح​ات هيكلية وبنيوية في الإدارة وفي البنى التحتية وفي السياسات والتشريعات المنظمة لل​اقتصاد​، مثل تفعيل دور القطاع الخاص وتحديد دور القطاع العام، وعمليات الخصخصة أين ومتى وفي أي قطاع ، وصولاً للتدخل بسعر الفائدة والصرف وعمليات الاكتتاب المختلفة للشركات ومعايير التجارة الحرة.  وعليه قد لا يكون الوصف مبالغاً إذا قلنا  “مذلة” من اجل حفنة من الدولارات!

والملفت أن جميع هذه العناوين التي يطالب بها هذان الدوليان يبدو أنها تهدف لصالح تقدم الفرد ورفاهيته، وبالتالي الوصول الى مجتمعات ودول متقدمة،  إلا أنه منذ تأسيسهما عام 1945، لم نر دولة افريقية أو آسيوية أو عربية، قد تقدمت لتصبح في مصافي الدول الصناعية، بسبب مساعدات الدوليين واستشاراتهما، بل على العكس المزيد من الارتهان بسبب ارتفاع المديونيات وغرقهم في أتون حروب بسبب ارتفاع نسب الفقر والتخلف!!

فهذان الدوليان يشترطان لإقراض الحكومات والشركات التي تقع تحت فكيهما سواء على مستوى قطاع عام او قطاع خاص، فضلا عن ما سلف، تطبيق الديمقراطية، وحقوق الانسان، كالتعليم والطبابة، وإعلاء شأن المرأة وتعزيز دورها في عملية التنمية، ويتم تقديم القروض تحت عناوين اصلاحية، غير أن النتيجة تكون المزيد من التخريب في الاقتصاد، وتراجع قدرة الفرد الشرائية.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، لكن أين تكمن المشكلة فيهما أم في حكومات الدول النامية؟

حكومات الدول النامية أو “الجنوب”، و​لبنان​ واحد منها،  لا تملك الخيار سوى الاقتراض، طالما هي مجتمعات استهلاكية، واقتصادها لا يملك مقومات الإنتاج والاعتماد على الذات لعدة أسباب لسنا في وارد شرحها، لذلك هذه الحكومات تبقى محشورة بين حدين، إما مرتهنة ومديونة وخاضعة لمساومات سياسية، وإما المزيد من الفقر والتخلف والتقوقع والتناحر.

ولأن هذان الدوليان من بين مهامهما تقديم المشورات للحكومات وللمؤسسات، إلا أن ظاهر تلك المشورات أشبه بمن يعطيك من طرف اللسان حلاوة، إنما باطنه أغلبه يصب في صالح سياسة المهيمنين عليهما، بما يسهم في تعزيز وحشية الامبريالية و”النيوليبراليا” التي تقودها الدول الغربية المتقدمة “الشمال”، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.

فالبنك الدولي مثلا اقترح الكثير من الإصلاحات على لبنان كما قدم قروضاَ ، إلا ان جميع تلك الاستشارات والقروض، لم تكن في صالحه بل كبدته المزيد من الديون، ولا غروَ في ذلك عندما نعلم قيمة الدين العام الصافي فاقت الـ 60 مليار دولار والتي تشمل “الداخلي والخارجي”، والذي معظمه  تراكم بسبب تراكم كلفة هذا الدين وليس فقط أصله.

لبنان

بالنسبة لقروض البنك الدولي للبنان تقدر القيمة الأصلية  والتي قدمت على مراحل منذ انطلاق خطة البناء والإعمار في لبنان بعد انقضاء الحرب الأهلية بـنحو 2.2 مليار دولار، منها ما كانت مدتها قصيرة المدى ومنها ما كان بعيد المدى، ومعظم تلك القروض قدمت من أجل مشاريع تنموية لتمويل مشاريع سدود مائيه، وتطوير مشاريع البنى التحتية، النقل المواصلات، وصولاً الى العام 2007 والتي قدمت من أجل تحفيز النمو الاقتصادي، وخلق مناخ تنافسي وسليم لمزاولة الأعمال، وإعادة بناء البنية  التحتية الاقتصادية مثل “الكهرباء، المياه،  البيئة، فضلاً عن تطوير أداء مؤسسة الضمان الاجتماعي، وإرساء شبكات أمان اجتماعية عادلة وشاملة تطال كافة شرائح المجتمع!

هذا ما تم الإعلان عنه حين تم التوقيع بين ممثلين عن البنك الدولي وعن الحكومات اللبنانية المتعاقبة.

والملفت هو ما توصلت إليه الحكومة اللبنانية في آخر اتفاقية جرت معه عام 2010، حيث تم الاتفاق على تقديم قروض تصل قيمتها الى 550 مليون دولار ضمن برنامج يستمر حتى العام 2013 لدعم سياسات الحكومة الرامية الى التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتحقيق العدالة الاجتماعية!

طبعاً نعلم جميعاً نحن اللبنانيين ، أن العدالة الاجتماعية والانماء المتوازن وتطوير الكهرباء والمياه والنقل والمواصلات وصولاً الى المالية جميعها تحسنت وبأحسن حالاتها في لبنان، كما أن مؤسسة الضمان الاجتماعي اصبح لديها برنامجاً يشمل كل اللبنانيين، وأحوال الافراد على ما يرام.!

عربياً

عربياً، من بين الدول العربية التي تأثرت بنصائح صندوق النقد الدولي الحديث هي  ليبيا، ففي عهد معمر القذافي كانت تعتبرهذه الدولة من الدول الافريقية القليلة التي توزع عائدات النفط بشكل عادل على شعبها، إلا أن صندوق النقد الدولي  اقترح عليها عام 2003 ان تقوم بعمليات خصخصة بعض المرافق الاقتصادية، وهذا ما حصل. وكانت النتيجة ان ارتفعت نسبة البطالة الى 20% في سنة واحدة، ومن ثم انعكس ذلك زعزعة في أداء الدورة الاقتصادية ككل، تأثرت بها باقي القطاعات والمرافق، وتتابعت الصرخات منذ ذلك الحين.

الأردن​ التي حصلت بدورها على مساعدات وقروض من البنك الدولي لتحسين أدائها الاقتصادي وتنفيذ عمليات تنمية وتطوير مختلفة، تتفاوض اليوم مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة  4ر1 مليار دولار للمساعدة في مواجهة عجز الموازنة، فوفقاً لمشورة سابقة صدرت عن الصندوق للأردن في بداية العام الجاري، طلب منه إعتماد برنامج مالي إصلاحي مدته 3 سنوات للحد من التشوهات التي شابت الاقتصاد الوطني ومساعدته على تحقيق نسب نمو أعلى وأكثر شمولية، تفادياً لحصول المزيد من التراجع في نموه الاقتصادي.

بالطبع هي مشورات ومساعدات وقروض لا بد منها، لأن بلداننا لا تملك الخيار البديل لتمويل اقتصاداتها، غير أن الحكمة طبعاً ليست  فقط في الوسيلة، إنما في الغاية وفي التنفيذ، خصوصاً إذا ما علمنا، أن معظم القروض التي حصل عليها لبنان مثلاً، لم تنفق تماماً للغايات التي تم الاتفاق عليها أو بالتوقيت الملائم، كما لم تكن الآليات التنفيذية لها مواكبة لواقع المتغيرات الحكومية والسياسية والامنية لدينا.

يسرى نعمة