أكثر من 15 خطاب متلفز في أسبوع واحد، لم تنفع "رجب طيب أردوغان" حتى الآن في تهدئة الجمهور التركي أو أسواق ​تركيا​ المالية. فبعد أزمة فضيحة الفساد التي عصفت بتركيا منذ شهر ديسمبر، والأزمة السياسية بين جماعة الداعية الإسلامي"فتح الله غولن" ورئيس الحكومة وحزبه، خسرت الأسواق التركية حتى الآن، بحسب نائب رئيس الحكومة "بولنت أرنتش"، 100 مليار دولار.

في العمق، يعود جزء من الأزمة بين الطرفين إلى الاختلاف بين الخلفية النورسية للجماعة، والخلفية النقشبندية لأردوغان والحزب الحاكم. كذلك، وعدى الصراع الخفي بين المدارس الصوفية في تركيا، يعود الخلاف في الظاهر بينهما للصراع على النفوذ والسلطة ورؤيتهما المغايرة لتركيا ودورها.

منذ وصول حزب "العدالة والتنمية" للحكم عام  2002، تحالف الطرفان معاً، واستطاعا سوياً "ترويض" المؤسسة العسكرية التركية وإبعادها عن التأثير في الحياة السياسية، بعدما توجا تحالفهما بنجاح الاستفتاء على التعديلات الدستورية عام 2010. خلال هذه الفترة استفادت الجماعة، تبعاً لتحالفها مع السلطة، لتتغلغل بقوة في أجهزة الدولة كالقضاء والشرطة كما في الإعلام، ووسعت نشاطاتها الاقتصادية والتعليمية بشكل كبير.

هذا التضخم لنفوذ الجماعة في الدولة وحتى داخل أروقة الحزب الحاكم، تنبه له الأخير قبل فوات الأوان فأخذ قراراً بإضعافها عبر بتر عامودها الفقري، وهو القطاع التربوي، إذ أن الجماعة تمتلك حوالي الألف مدرسة وعشرات الجامعات المنتشرة في تركيا ودولٍ أخرى. كذلك يسعى الحزب في خطوته هذه، للتخلص من ابتزاز الجماعة له وهو على أبواب انتخابات محلية مفصلية قد تكون مقدمة لتغير الدستور التركي لجعل النظام التركي رئاسي في حال فوز الحزب الحاكم فيها بنسبة كبيرة، توطئة لترشح أردوغان نفسه لرئاسة الجمهورية في الصيف القادم.

إلى الآن، بلغ الصراع بين الطرفين ذروته مع قرار الحكومة التركية إغلاق المدارس التحضيرية الخاصة التي تملك معظمها جماعة "غولن"، والتي تشكل مصدر ربحٍ كبير لها ومجالاً حيوياً للتأثير الاجتماعي. ردت الجماعة بشكل غير مباشر، عبر تسريب وثائق الفساد التي تطال مقربين من الحزب الحاكم بينهم أبناء ثلاث وزراء، تبعها قيام الأخير باستبعاد مئات مدراء الشرطة والإداريين الكبار والموظفين المحسوبين على جماعة "غولن"، بالتوازي مع استقالة ثلاث وزراء من الحكومة التركية وسبعة نواب منه إلى اليوم.

كل هذا الصراع، وأشكاله، لم يوفر الاقتصاد التركي، فتراجعت قيمة الليرة التركية من 2.04 إلى 2.18 مقابل الدولار خلال نصف شهر، كما تراجعت بورصة إسطنبول بأكبر نسبة لها منذ آب 2012. كذلك أدت فضيحة الفساد لإفقاد تركيا السمعة الطيبة التي كانت تتمتع بها في موضوع استقرار الأسواق والإدارة الجيدة للاقتصاد منذ 10 سنوات حتى الأمس القريب.

برز الاقتصاد التركي، في الوثبة التي قام بها والتي عززت قوة تركيا الإقليمية في العقد الأخير، كأحد أهم أسباب نجاح أردوغان وحزبه واستمرارهم في السلطة لمدة 11 عاما.ً لكن يبدو أن شيئاً ما على وشك التغير، فسياسة تركيا الخارجية تراجعت نجاحاتها منذ حلول "الربيع العربي"  وتوجت بخسارتها حليفها "إلإخواني" في مصر. كذلك فإن الأزمة السياسية - الاجتماعية التي اجتاحت تركيا مع مظاهرات منتزه "جيزي" السنة الماضية، لا تزال ذيولها ظاهرة للعيان لكل متتبع لشؤون تركيا الداخلية، يضاف عليها المشاكل الداخلية الدائمة والخفية في تركيا كالمسألة الكردية والقضية العلوية. لذلك فإن كل هذه الأزمات، قد تؤدي حين يقع الاقتصاد التركي فريسة الصراعات الداخلية بين القوى الإسلامية إلى تهديد حكم حزب "العدالة والتنمية"  بشكلٍ جدي.

بالرغم مما جرى، لا يزال أردوغان وحزبه أقوياء في تركيا، خاصة وأن أخصامه الجدد، جماعة "فتح الله غولن"، يفتقرون للتأيد الشعبي الكبير أو القدرة الانتخابية وإن كانوا يملكون الكثير من مراكز النفوذ في الإدارة والإعلام وفي أوساط رجال الأعمال. من ناحية أخرى تبدو الأحزاب اليسارية والعلمانية التقليدية ضعيفة، وتفتقر للبرامج وتعيش خارج الزمن التركي الجديد. لذا يبدو أن أردوغان سيبقى في الحكم بسبب غياب بديلٍ واضح عنه إضافة لضعف خصومه الداخليين، فلا إمكانية لأحد بإسقاطه اليوم طالما لم تعصف بتركيا بعد أزمة مالية واقتصادية حادة وعميقة تدفع الأتراك للبحث عن قيادة جديدة. فكما كان نجاح الاقتصاد التركي سبباً أساسياً لبقاءه في السلطة، يبدو أن احتمال فشل الاقتصاد سيكون السبب في خسارته لها، وهذا الأمر يحتاج للوقت ليتحقق ولم ينضج بعد.

بوادر أزمة اقتصادية بدأت تلوح في الأفق التركي، خاصة وأن الصدّام بين الجماعتين لا يبدو أنه سيتوقف في القريب العاجل، فبعد انخفاض سوق الأسهم التركية بما يقارب الـ20% من قيمتها، وانخفاض القيمة السوقية للشركات التركية المدرجة بـ49 مليار دولار في اليوم الأخير من العام الماضي، يبدو أن المؤشرات الأولية بدأت تنضج لهروب رؤوس الأموال من تركيا. وهذا إن حصل سيتبعه بداية تباطؤ حاد في النمو التركي ما قد يكلف الحكم التركي الحالي سلطته.

يخوض أردوغان في الأشهر الثلاث القادمة، وإلى حين فرز صناديق اقتراع الانتخابات المحلية عشية 30 آذار 2014، معاركه السياسية على مستويات عدة، أبرزها معركة تثبيت الاقتصاد التركي حفاظاً على مواقع حزبه في السلطة والإدارات المحلية، وتحضيراً لمعركته اللاحقة لإقرار دستورٍ جديدٍ للبلاد وللانتخابات الرئاسية. أما جماعة "غولن" فمعركتها القادمة ستكون عبر حجب أصواتها عن مرشحي الحزب وصولاً إلى استخدام إعلامها القوي لمحاربته. والأهم فضح المزيد من الفساد داخل الإدارة والحكومة التركية وقطاعاتها المالية، ما قد يساهم في تعزيز فرضية بداية انهيار الاقتصاد التركي، ليؤدي، في نهاية المطاف، إلى تغير السلطة الحالية ما يبرر القلق الحقيقي للمستثمرين الأجانب الذين استفادوا من ليبرالية الحزب الحاكم المفرطة على مدى العشر سنوات الأخيرة.