في آخر تقرير صدر عن شركة "أرنست ويونغ " للدراسات والاستشارات المالية والمحاسبية، ثمة ما يلفتنا ويجعلنا نقف عنده، وهو تلك الإشارة الى الموقع الاقتصادي العالمي الذي يمكن أن تحتله منطقتا شمال أفريقيا والشرق الأوسط، المنطقتان اللتان ضمتا انتفاضات ما سمي "​الربيع العربي​"، حيث اعتبر التقرير أن لديهما من الميزات ما يؤهلهما للتفوق على التنين الأصفر في تصنيع السلع المنخفضة التكلفة، بالإضافة لميزات أخرى.

والملفت في هذا التقرير، ليس الموقع الاقتصادي الهام الذي يمكن أن تلعبه هاتان المنطقتان، فالكل يعلم أن هناك الكثير من الدراسات صدرت سابقاً  وتحدثت عن الدور الاستراتيجي الذي تعلبه بلدان شاطىء البحر المتوسط الجنوبي للاتحاد الأوروبي  وشرقه، ولبعض الدول الأخرى في العالم، أما الجديد فهو الإشارة اليهما باعتبارهما  لديهما مقومات التغلب  على دور أول قوة اقتصادية في العالم من حيث التصنيع ، ولثاني أقوى اقتصاد بعد ​الولايات المتحدة​.

لكن ما هي تلك الحقائق والمؤشرات التي اعتمدت عليها  هذه الشركة في بناء دراستها هل هي الموارد الطبيعية أو الإمكانات اللوجستية  لهاتين المنطقتين، أم تعود لمناخ الاستثمار وحوافزه المختلفة؟ أم أن ذلك يعود لعوامل اقتصادية تتعلق بالصين ؟

معضلة الصين

فلنبدأ أولاً  من الصين : يشير بسام حاج  رئيس الأسواق في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في هذه الشركة، الى نقطة هامة تتعلق باقتصاد الصين، ففيما يعتبر أن الصين لا تزال تتمتع بقدرة تنافسية عالية جداً في التصنيع، إلا أنه يلفت الى ارتفاع الأجور في هذا البلد، وهو ما رآه أنه يفتح الباب على مصراعيه للكثير من الفرص في منطقتي شمال أفريقيا والشرق الأوسط، واللتان تشهدان تزايداً سريعاً في أعداد القوى العاملة، ما يكسبها ميزة أخرى تؤهلهما للتحول الى مركزين تصنيعين عالميين في المستقبل القريب، ويذهب هذا الخبير الى أبعد من ذلك، بل أنهما ستتفوقان على الصين .

يؤكد خبراء آخرون هذه الحقائق استناداً الى النمو الاقتصادي المتسارع الذي شهدته الصين خلال العقدين الماضيين، بعد نشوء "الاتحاد الأوروبي" وارتفاع سعر اليورو مقابل العملات الأجنبية، و غلاء الدولار وتذبذبه مقابل العملات الرئيسية، وارتفاع نسب التضخم المحققة في الولايات  المتحدة الأميركية أو في اليابان  في مرحلة ما قبل الأزمة المالية عام 2007، وهذا ما دفع الكثير من الشركات الأميركية واليابانية والأوروبية، المنتجة للصناعات الضخمة والمتوسطة، للبحث عن مناطق بديلة تتميز بكلفة عمالة منخفضة، إضافة لتسهيلات أخرى لتصنيع سلعهم مثل الصين وكوريا وتايوان، للتخفيف من حجم التضخم، ولخفض تكلفة منتجاتها.

 ولأن الصين تتمتع بكثافة عمالية إذيبلغ تعداد سكانها نحو 1.332 مليار،  كما تتميزبحوافز استثمارية جاذبة منذ أطلقت برامجها التصحيحية الاقتصادية في بداية ثمانينات القرن الماضي، وتتمتع بانسيابة ومرونة في إجراءاتها الإدارية والتجارية، إضافة لبنى تحتية متطورة، ناهيك عن انخفاض الأجور وتكلفتها، ما يخفض كلفة تصنيع المنتج ينخفض في بعض الأحيان 4 مرات أقل من تكلفته في بلد المنشأ.

وخلال نحو عقدين من الزمن تسارعت قوة هذا الاقتصاد ليحقق معدلات نمو هائلة بسبب تهافت تلك الشركات لبناء مصانع لها من جهة، فضلاً عن تفوقه في تقليد الصناعات والابتكارات الاجنبية في المجالات التقنية من جهة ثانية، ومع وجود موارد طبيعية وانخفاض في تكلفة أجر العمالة، كل ذلك أسهم في رفع نسب نمو هذا التنين والتي وصلت في عام 2010 الى نحو12 في المئة، رغم أنه عاد وانخفض الى نحو 8.5% العام الماضي.

من النمو الى التضخم

وقبل الأزمة العالمية والاضطرابات في المنطقتين كانت دراسات تشير الى أن الاقتصاد الصيني سيصبح أكبر من الاقتصاد الأميركي بحلول عام 2016 استناداً للمقومات التي تتميز بها، فقد تمكنت من احتلال المركز الأول من حيث القدرة على التصنيع، ففي عام 2010 تجاوز انتاجها مثلاُ من أجهزة التلفزيون والهواتف الذكية والصلب  وغيرها انتاج الولايات المتحدة، وبحسب التقارير الاقتصادية الصادرة عن جهات اقتصادية رسمية مختلفة، فإن صادراتها تشكل خمس التصنيع العالمي، كما أن إنتاج مصانعها الرخيصة ساعد شركاءها في كل من اليابان والولايات المتحدة وأوروبا، الذين فتحوا مصانعهم وورشات عملهم لديها،  من كبح نسب التضخم في بلدانهم، غير أن المعادلة كلها تغيرت بعد الأزمة المالية،  فقد انتقلت عدوى التضخم الى اقتصاد التنين الذي بدأ بدوره يصارع تداعيات التضخم  بفعل تسارع النمو الاقتصادي لديه إزاء هذه الورشات الصناعية، التي اسهمت بشكل مباشر في رفع كلفة الاجور، وارتفاع اسعار الأراضي وكلفة الاستثمار والتشغيل، وبالتالي ارتفاع فاتورة التصنيع ككل.

ووفقا للمسح الذي أجراه البنك الاستثماري لستاندرد تشارترد في مناطق مختلفة من الصين، فإن أجور العمال ارتفعت بنسبة 30% العام الماضي، و10% العام 2010، فيما ارتفعت كلفة العمالة بنحو 20% سنوياً على مدى السنوات الأربع الماضية.

البحث عن البديل

ولعل هذا ما جعل الكثير من الشركات العالمية المصنعة في الصين أن  تفكر في إقفال أبوابها وتبحث مجدداً عن مراكز لتصنيع منتجاتها بتكلفة أقل خصوصاً أن كلفة الشحن والعمليات اللوجستيه هي بدورها ارتفعت بسبب التضخم وتكلفة الحياة.

وبالفعل فقد أصبحت هذه الحقائق تشكل مادة دسمة للنقاش أمام كبار صانعي القرارات الاقتصادية في كل من الصين وشركائها المنتجين، ففي اجتماعات ثنائية جمعت ما بين  ممثلين من غرفة التجارة الأميركية مع غرفة  شنغهاي العام الماضي أكد فيها الطرفان  أن أكبر تحدٍ يواجههم هو ارتفاع تكلفة إنتاج السلع، والذي يأتي في المصاف الأولى قبل الفساد والقرصنة.

وإزاء هذه المعطيات ورغم أن نسب النمو تراجعت والتضخم تراجع طفيفاً في الصين، إلا أن الأجور والتكلفة لا تزال على ما هي، وهذا ما دفع بالمنتجين وبالاتفاق مع أرباب الاقتصاد العالمي لإيجاد مخارج لأزمة الكساد التي يرزحون تحتها بفعل الأزمة العالمية من جهة ،  ومن وطأة ارتفاع تكلفة المنتج في الصين من جهة أخرى, والبحث عن أماكن بديلة لمصانعهم تكون تكلفة العمالة فيها أقل ، بالإضافة للشروط الاستثمارية الأخرى، والتي يرى خبراء ان منطقتي شمال أفريقيا الشرق الأوسط لديهما من الإمكانيات التي تؤهلهما للعب هذا الدور ولاستقطابهم، فبحسب خبراء "ارنست ويونغ" إذا ما تم الاستثمار في تطوير البنى التحتية لهما، ومواصلة بذل الجهود لتعزيز روح ريادة الأعمال، فضلاً عن الاستفادة من تجربة الصين في نهجها الذي حقق لها نسب النمو المرتفعة، ووضع سياسات تشجع الشركات المتوسطة والصغيرة لتأخذ دورها في اللعبة الاقتصادية.

500 مليار لتطور المنطقتين

وهنا لا بد من الإشارة الى أن البنك الدولي كان قد أعلن منذ 5 أيام أن منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا تحتاجان لجمع 500 مليار دولار ضمن ما اسماه صندوق للاستثمار، في أعقاب ما اسماه "ثورات الربيع العربي" لإعادة بنائه وتطوير بناه التحتية.

وقال مؤيد مخلوف المدير الإقليمي لمؤسسة التمويل الدولية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا  حينها أن المؤسسة وهي ذراع البنك الدولي لإقراض القطاع الخاص، أضافت لهذا الصندوق ما بين 2.2 مليار دولار و2.4 مليار بغية استثمارها  المنطقة العام المقبل.

وأمام هذه المعطيات كافة ، ما الذي يمكن أن يميز هاتين المنطقتين ويؤهلها لمنافسة هذا العملاق الأصفر؟

المعلوم أن السوقين المصري والتونسي أصلاً يتمتعان بكلفة عمالة منخفضة، وإن كان حجم العمالة المصرية يفوق كل دول شمال أفريقيا بسبب التعداد السكاني المرتفع لمصر، زد على ذلك التداعيات التي تسببت بها الاضطرابات لكل المنطقة وتحديداً في مصر وليبيا وتونس، سواء لجهة البطالة وتراجع معدلات الدخل للأفراد، وانخفاض أسعار الأراضي التي تراجعت بشكل درامي، أوانخفاض أسعارالإيجارات وانعدام الضرائب والرسوم أو انخفاضها على المكائن المنتجة للسلع.

وفي هذا الإطار كان هناك اجتماع لاتحاد غرف التجارة العربية والدولية العام الماضي في تونس، ضم فئات مختلفة من رجال الأعمال برئاسة عدنان القصار، حيث تم النقاش حول آفاق الاستثمار والدور الذي يمكن أن تؤديه  هذه المنطقة بعد حصولها على الاستقرار الأمني.

وبالإضافة لما أسلف، فعدا عن كون  هاتين المنطقتين تمتلكان فرصاً لاستقطاب شركاء خارجيين لبناء مصانع لمنتجاتهم، بل هناك فرصاً استثمارية نوعية في مجال المشروعات المعدنية والغزل والنسيج والمشروعات الكيميائية والدوائية المحلية، وفي المشروعات الصغيرة المرتبطة بالتنمية الصناعية فى العديد وتحديداً في مصر وتونس.

مشاريع الطاقة الشمسية

 أمر أخر فمن خلال دراسات متخصصة قامت بها إحدى الشركات الأوروبية،  يتبين أن هناك فرصاً أضخم تختزنها هذه المنطقة، ولعلها قد تميز ملامح المرحلة المقبلة خصوصاً بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي، وهي الاستثمار في مجال الطاقة الشمسية.

إذ يدعم الاتحاد الأوروبي منذ فترة مشروعات لتحويل أشعة الشمس الوفيرة في الصحراء الافريقية الكبرى إلى كهرباء لتصديرها إلى أوروبا المتعطشة للطاقة، وهو برنامج يأمل الاتحاد الأوروبي، أن يساعد بلدانه في تلبية هدفها لتدبير 20 % من طاقتها من مصادر متجددة بحلول عام 2020، وأن هناك دراسات تجري بهذا الشأن يمكن بموجبها توظيف مئات المليارات من اليورو على مدى 30 و40 السنة المقبلة.

كما تتوالى الجهود حالياًعلى مستوى منطقة شمال افريقيا، لإنشاء منطقة حرة تخدم دول هذه المنطقة، وتضم كل من مصر وتونس والجزائر والمغرب. وفي هذا الشأن قال "سيد دقلة"سكرتيرعام الغرفة التجارية لمحافظة الجيزة  وعضو مجلس إدارة الغرفة المصرية التونسي أثناء اجتماعات الغرف التجارية، أنه  في ظل ثورات ما أسماه "الربيع العربي" يأمل أن تحقق هذه البلدان بيئة مناسبة للاستثمار والانتاج لاستعادة نبض الاقتصاد، وتعويض ما فات والتحضير للمستقبل، ما يستلزم تشجيع مناخ الاستثمار بحوافز وتشريعات ملائمة.

إذن في الاقتصاد كما في السياسة وكما في اي شيء آخر، يوم لك ويوم عليك، فهل كان يخطط لهاتين المنطقتين،  لأخذ دور التنين المارد الذي يصارع مرض التضخم حالياً والذي لطالما قض مضجع الولايات المتحدة بتفوقه الصناعي والإغراق الذي كان يتسبب به في أسواقها؟،وهل يمكن السؤال أن "الثورات العربية" جددت الآمال أمام كبار صناع القرار واللاعبين الاقتصاديين في العالم ، لإعادة خلط الأوراق وتوزيع الأدوار الاقتصادية من جديد لهاتين المنطقتين بما يخدم مشاريعهم الاستثمارية؟