أما وقد بدا رفع الدعم بالتدرج عن السلع الاساسية من دون أن تنجز البطاقة التمويلية والتي زعموا أنها ستكون البديل، فهذا يعني أننا دخلنا مرحلة الافقار الشامل التي تسبق مرحلة ​المجاعة​.

المشكلة الرئيسية أن لا قرار برفع الدعم ولا قرار بترشيده وابقائه. المشكلة هو في غياب القرار من اساسه، ففي البلد لا توجد سلطة واحدة بل سلطات متعددة، تعمل كل منها باستقلال تام عن الباقين، ولا تحسب حساب أحد، أو تخشى ردة فعل شعبية، على عكس ما يهولون بالقول ان ثورة الجياع قادمة.

المعضلة هي في تداخل السلطات بعضها ببعض، وتضاربها في ما بينها،وصراعاتها المعلنة وغير المعلنة، حيث تطغى الحسابات السياسية فتختلط بالقضاء والمال والمصالح .. وتقدم كل مكونات وصفة الانهيار.

التدقيق الجنائي

نظرة سريعة على الواقع السياسي تظهر لنا مدى التشرذم والتخبط على مستوى القيادة، فالبعض راهن على بدء التدقيق الجنائي في حسابات ​مصرف لبنان​ وسائر الادارات الرسمية علهيجد أين وقعت الخسائر، والى أين هربت الاموال، فتكون خطوة أولى نحو استعادة ما أمكن من مليارات قد تعين في وقف الانهيار. وعلى سذاجة هذا الطرح وتفاؤليته الطفولية، لان تحقيق هذا الامر يتطلب اشهرا وسنوات لا نملكها، فان ال​مافيا​ السياسية- المالية استطاعت ان تضيع مرة أخرى مهلة تسليم المستندات الخاصة بهذا التدقيق الى"ألفاريز اند مارسال”. ومن المؤكد ان هذه المافيا لن تعجز عن ايجاد الذرائع القانونية او الاجرائية لتأجيل هذا التدقيق الى ما لا نهاية. أوبكلام ادق الى كانون الاول نهاية هذا العام لتنقضي مهلة السنة لقانون تعليق ​السرية المصرفية​ الذي أقر في كانون الاول الماضي (2020 ). وكما أضاعوا الستة اشهر الاولى سيضيعون الستة اشهر المقبلة .

في الاثناء تجري محاولات قضائية منفردة للتحقيق في تهريب الاموال، الا أنها محاولات غير مجدية لانها ليست شاملة، مرتجلة وانتقائية، وشعبوية دعائية ، والاهم من كل ذلك انها تُحارب من داخل الجسم القضائي، فالقضاء المنقسم على نفسه اليوم ليس سوى انعكاسا للسياسة.

الكابيتال كونترول

يستمر ​مجلس النواب​ في اعداد مشروع قانون ضبط ​التحويلات​ (الكابيتال كونترول) الذي يبقى موضع خلاف كبير بين المكونات النيابية بوصفها ممثلة للتكتلات المالية الكبرى المتحكمة بالبلد،اي بكلام آخر ممثلة للمافيا. علما ان الفائدة المرجوة منه للتصدي للانهيار شبه معدومة لانه سيأتي متأخرا 18 شهراً، فاذا كان الهدف الحفاظ على الرساميل والثروات في لبنان فقد سبق السيف العذل،اذ جرى تهريب ما يعادل 60 مليار دولار من اجمالي الودائع وفق تقديرات متقاطعة مستقاة من ​الميزانية​ المجمعة للمصارف ومن ميزان المدفوعات بين تشرين الأول 2019 ونيسان 2021. أما الحديث عن الايجابيات في مشروع القانون من خلال بند الاستثناءات والذي يسمح للبعض بتحويل مبالغ معينة بالدولار الى الخارج لاهداف محددة (كتعليم الطلاب مثلا) فيبدو ان ​المصارف​ الممانعة لهذا الامر وجدت في البيان الاخير لمصرف لبنان ضالتها. فقد تحدث البنك المركزي عن مفاوضات يجريها مع المصارف للسماح للمودعين بالحصول على 25 الف دولار من ودائعهم ابتداء من 30 حزيران المقبل.

الاقتراح الجديد لم يجب على سؤال سبق طرحه خلال مناقشات الكابيتال الكونترول وهو: من أين ستأتي المصارف بالدولارات لتعيدها الى اصحابها، علما انها سبقت وقالت ان كل ودائع المواطنين موجودة في مصرف لبنان على شكل ​ديون​ ؟!

بيان مصرف لبنان يتحدث عن مفاوضات مع البنوك، وهذا يعني بالكلام الصريح انه اقتراح مؤجل ومعلق .. فهل يصح بعد ذلك الكلام ، كما ورد في بيان "المركزي" ، عن خطة لاراحة اللبنانيين؟

اعادة الهيكلة

مشروع قانون الكابيتال كونترول يواجه صعوبات كثيرة، والاهم انه يأتي تنفيذا لتوصية ​صندوق النقد الدولي​، ولكن لا اهمية فعلية لهذا القانون اذا لم يقترن عضوياً باعادة هيكلة المصارف، واذا لم يتصل بخطة مالية واضحة تحدد الخسائر وتقرر سبل الانقاذ، وهذا هو مطلب صندوق النقد الدولي كشرط ليساهم في اي تمويل.

وفي السياق نفسه فان الحديث عن هيكلة المصارف،كما يريد صندوق النقد،يجرنا الى السؤال عن نتائج تعاميم مصرف لبنان الخاصة بزيادة الرساميل وتعزيز الأموال الخاصة لدى البنوك المراسلة، فالبنك المركزي تحدث في بيانه الاخير عن نجاح تطبيق التعميم 154 ، في حين اعلنت مصارف كثيرة انها في حالة عجز لدى المصارف المراسلة ، وكذلك افادت لجنة الرقابة على المصارف ان معظم البنوك لم تستطع تطبيق التعميم.فمن نصدق ؟ وعلى اي اساس ستم اجبار المصارف على اعادة الاموال الى المودعين؟

المنصة

خير دليل على التخبط في لبنان هو موضوع منصة ​صيرفة​ المفترض ان تلجم سعر صرف الدولار،وتضبطه (مرحلياً واصطناعياً) عند 10 آلاف ليرة مقابل الدولار.فالسلطة السياسية، او ما تبقى منها، تريد المنصة باي ثمن ، والسلطة النقدية تماطل.

السلطتان معا تعرفان ان المنصة لن تكون الحل لانهيار سعر صرف الليرة، بل بالعكس فانها قد تكون مؤشرا اضافيا على هذا الانهيار. فالمعروف ان مصرف لبنان يحافظ على ما تبقى من احتياطي بالعملات الصعبة، ويستحيل عليه صرفها في السوق لموازنة العرض والطلب لتثبيت سعر الليرة، ولو نسبيا. وعندما يترافق اطلاق المنصة مع رفع الدعم،فهذا يعني ان الطلب على الدولار من قبل ​التجار​ والمستوردين سينتقل من "المركزي" الى السوق،واذا كان حجم السوق الموازية الان 4 الى 5 ملايين دولار يومياً حالياً، فانه سيرتفع إلى ما بين 25 و30 مليوناً بعد رفع الدعم. وهذا وحده كفيل في رفع سعر الدولار الى مستويات قياسية جديدة.

لماذا تكذب السلطتان على الناس اذا ؟

القضاء والسياسة

ظهرت خلال الآونة الأخيرة سلسلة احكام قضائية لصالح للمودعين نسبياً، من الحجز على أصول مصارف ومجالس اداراتها، لانها لم ترجع للمودعين اموالهم التي يحتاجون اليها. كما تحرك القضاء اللبناني لمواكبة التحقيقات السويسرية التي تتهم ​رياض سلامة​ وأخيه باختلاس و​تبييض أموال​ تقدر بنحو 300 مليون دولار، اضافة الى دعاوى فتحت ضد سلامة في ​بريطانيا​ و​فرنسا​.

هذه الظاهرة جعلت الحاكم سلامة يستعجل باصدار بيان يطلق فيه " مبادرة لاراحة اللبنانيين"، حسب وصفه، أبرز ما فيها منح بعض المودعين حق الحصول على جزء من ودائعهم بالدولار ، بدلامن اللجوء الى القضاء. هذه الفكرة التي لا يمكن وصفها بالمبادرة بل بمجموعة افكار، ولدت ميتة لان المصارف اساسا تعجز عن تأمين حاجات المودعين من رساميلها في لبنان، وتعلن ان حساباتها في المصارف المراسلة تحت الصفر(العجز 1.7 مليار دولار).

حصول المودعين على ودائعهم حق طبيعي لا يحتاج الى مبادرات، وهو حتى لا يحتاج الى احكام قضائية ، كما انه لا يحتاج الى قانون جديد ، كما ورد في بيان سلامة .

خلاصة الامر ان ثمة خلط مريب هنا ، بين السياسة والقضاء ، بحيث ترمي السلطة النقدية الكرة في ملعب الطبقة السياسية، وكذلك يفعل القضاء الامر نفسه ، لان تنفيذ احكامه بالحجز الفعلي على املاك ورساميل المصارف يتطلب قرارا سياسيا كبيرا، وهو باللغة المالية يسمى اعادة هيكلة المصارف، اي بقاء فقط القادر منها على اعاة ودائع الناس، واعلان ​افلاس​ البقية.

الاخطر في الموضوع ان ثمة تهويلا كبيرا يجري في وسائل ​اعلام​ مأجورة من قبل مافيا المال والسياسة، تعتبر ان تدخل القضاء ضد ​القطاع المصرفي​ و"المركزي" سيسقط الهيكل فوق رؤوس الجميع ، فهم حراس ما تبقى ، وهم المنقذون لاحقا . والواقع ان هذا الهيكل سقط بالفعل وكل المعركة الان هي حول من يتم انقاذه من تحت الانقاض ومن يترك ليموت:المصارف أم المودعين ؟

الكذبة الاكبر

سبق وتناولنا موضوع البطاقة التمويلية المفترض انها بديل للدعم، وشرحنا انها مستحيلة من دون تأمين تمويلها. وقد وصل النقاش ليتوقف في هذا المكان بالذات ، فهل ينفق عليها مصرف لبنان بالليرة من خلال طبع العملة ما يؤدي الى فقدان قيمتها نهائيا ؟ أم ينفق عليها من الاحتياطي الالزامي كما تريد السلطة السياسية ، فنصل الى نتيجة الافلاس نفسها؟

هكذا طار مشروع البطاقة التمويلية.

ومن ناحية ثانية أقر مجلس النواب تقديم سلفة خزينة لشركة ​كهرباء لبنان​ قيمتها 200 مليون دولار تكفي لشهرين فقط، ولكن المجلس الدستوري علق العمل بهذا القانون بانتظار البت بطعن نيابي، وتنتظر السلفة قرار المجلس النهائي علما انه فاقد للنصاب القانوني حاليا. وفي كل الاحوال فان هذه المسألة وبغض النظر عن خواتميها القانونية والدستورية ، مرتبطة ايضا بسياسة ادارة الاحتياط الالزامي ، فمنه ستأتي المئتا مليون دولار ، وغيرها من السلفات المستقبلية التي ستقر.

مصرف لبنان لم ينتظر القرارات الحكومية ،لا في شأن ​المواد الغذائية​ والطبية ، ولا في شأن ​المحروقات​ ، ولا في شأن ​الكهرباء​، وبدأ ترشيد الدعم بشكل غير مباشر من ناحية الشكل، ولكنه رفع فعلي للدعم من ناحية المضمون. وقد لمس المواطنون سريعا اضرار هذا القرار بارتفاع ​جنوني​ لاسعار اللحوم على انواعها ، وانقطاع الدواء ، وشح المحروقات ، وفقدان الكثير من السلع.

خلاصة

هذه هي خلطة السياسة والقضاء والمال التي لم تنتج سوى الانهيار، وبعد سقوط الهيكل فوق رؤوسنا، يحق للبنانيين السؤال عن المخرج من هذا الصراع العبثي بين مكونات السلطة، او السلطات في لبنان، ومن هذا الاستهتار بحياة الناس. ويحق لهم ان يرفضوا كل اشكال الاخضاع والاذلال التي يتعرضون لها يوميا ، فيثورون عن جد هذه المرة.