هذه الأيام، يحلو للجميع، تقريباً، القول إن تشكيل الحكومة كفيل بوقف الانهيار وإطلاق مسار التصحيح والنهوض الاقتصادي والمالي. وبالتوازي صار الحديث عن الانهيار أمرا عاديا جدا، وكأنه حالة من الحالات اللبنانية المعتادة، حتى أن بعض السياسيين صار يتغنى بهذه الكلمة ويستخدمها شعارا سياسيا جذابا، يمكن أن يشد انتباه الجمهور المتعب والقرفان من كل ما يمت للسياسة بصلة. إلا أن الاسوأ من كل ذلك، استخدام كلمة الانهيار كماركة للاستهلاك التجاري، اي للترويج لسلعة أو خدمة ما.

الحكومة والانهيار كلمتان نسمعها كثيراً في الآونة الاخيرة، وكلما استفحلت الأزمة اشتدت الحاجة الى استخدامهما، الثانية توصيف الحال، والأولى لمعالجته، حسب الزعم السائد.

ولكن الحقيقة في مكان آخر.

الانهيار ليس طارئاً على البلد، وهو لم يبدأ نهاية العام 2019، فعجز الدولة عن ​موازنة​ نفقاتها مع مواردها بدأ منذ العام 1990، وبالتالي فإن هذا الانهيار تأسس لبنة لبنة، عاما بعد عام، مع كل مشروع موازنة سنوية كانت الحكومة تقدم للنقاش مزعوم في مجلس نيابي، وإقرار محسوم سلفاَ، فالمعروف أن البرلمان هو صورة طبق الأصل عن ​مجلس الوزراء​ نفسه.

كان لدينا الكثير من الحكومات طوال مرحلة ما بعد الطائف، وحتى ما بعد العام 2005 المفصلي، كان لدينا حكومات، ومعظمها قامت تحت شعار الوحدة الوطنية، إلا أن المسار الانحداري لم يتوقف، فكيف يصح القول اليوم إن تشكيل الحكومة سيوقف الانهيار؟

الأصح القول أن حكومات الوحدة لم تكن سوى حكومات تكاذب وتخصص، وأن حكومات اللون الواحد كانت عاجزة، على أحسن تقدير، وربما متواطئة، في تكريس الانهيار. وكما أن حكومة ​حسان دياب​ المستقيلة اليوم، لم تخرج عن هذا التصنيف، وكما أن الحكومة العتيدة المقترحة لن تخرج عن هذا التصنيف، فما معنى الرهان عليها لوقف الانحدار إلى أسفل الهاوية؟ وخصوصا ان ​السياسة المالية​ لم تتغير بتغير الحكومات وهي لن تتغير في الحكومة المقبلة.

الانكى من ذلك أن نقاشات التشكيل اليوم، وطريقة توزيع الحصص والأنصبة الطائفية والسياسية، توحي بأن ما سيلد ليس حكومة للعمل، بل حكومة فض اشتباك وربط نزاع بين قوى سياسية متناحرة، وان الحكومة الوليدة إذا ولدت، ستكون ساحة حرب بمتاريس وخنادق، ولكن في هدنة ملتبسة، أو كما يقال في اللغة العسكرية، في حالة وقف إطلاق نار، او وقف الأعمال العدائية.

التدقيق الجنائي هو المتراس الأول الذي سيتخندق خلفه المتحاربون- المتآلفون في حكومة. فمعرفة حقيقة خسائر المالية العامة منذ اتفاق الطائف وحتى اليوم، والمقدرة بـ80 مليار دولار على الاقل، وتحديد من هو السارق والمختلس والمرابي المتوحش، هي اولوية لوقف التدهور ومن ثم النهوض. وها نحن نرى بأم العين أن ثمة من يشترط للإفراج عن الحكومة التخلي عن هذا التدقيق، وآخر يشترط إجراء التدقيق لكي يسهل تشكيل الحكومة.

هذا التدقيق مطلوب ليس في حسابات ​مصرف لبنان​ فقط، بل في كل ادارات ومصالح الدولة، وخصوصا في وزارات اهدرت مليارات الدولارات. فإذا كان هذا الأمر الجوهري موضع نزاع اليوم، فعن أي حكومة وقف انهيار يتحدثون؟

السلطة السياسية ممثلة برئيس الجمهورية وجزء من الحكومة وبعض المجلس النيابي تحمل البنك المركزي و​المصارف​ مسؤولية الانهيار المالي، وهي محقة بقدر معين. وفي المقابل فإن ​القطاع المصرفي​ يرد التهمة بتحميل السلطة السياسية مسؤولية الانهيار، وهو ايضا محق بقدر ما. والحقيقة أنهما، الدولة والقطاع، طرفان في سلطة واحدة سياسية- نقدية، مسؤولة بكل مكوناتها عن الانهيار والإفلاس، واي حكومة ستقوم في المستقبل القريب والبعيد لن تكون سوى اخراج جديد لهذه الشراكة.

ليس من قبيل الصدفة أنه في الثلاثين سنة الماضية كان الوئام والغرام قائما بين الطرفين، السلطة السياسية التي وضعت السياسات المالية، والمصارف التي اغتنت واغنت الطبقة السياسية بفعل تلك السياسات. وحده البلد ومواطنيه هم الذين افقروا. أما اليوم، وبعد خراب ​البصرة​، وبعد ان خسرنا كل شيء، وبات يتوجب على الجميع تحمل الخسائر، انفخت الدف وتفرق العشاق. ولم يعد أمام المواطن سوى الاختيار بين ​الفقر​ وبين الموت من ​الجوع​.

اليوم، وفي عز النزاع القائم ثمة توافق قسري بين الدولة والمصارف على أمور عدة، أبرزها تأجيل خطوة تحرير سعر صرف الليرة، الدولة لا تريد انفجارا اجتماعيا حتميا عندما تتضاعف أسعار السلع، كلها من دون استثناء، 10 مرات عما هي عليه اليوم. والمصارف التي تستفيد من حالة اللايقين في سوق النقد، للتخلص من ودائع الناس بالدولار بسعر بخس، أي 3900 ليرة للدولار.

عندما تتشكل حكومة سيكون عليها اتخاذ القرار الكبير،هل يستمر تثبيت سعر الصرف، وسيؤدي ذلك حتما الى رفض ​صندوق النقد الدولي​ ​اقراض​ لبنان اي دولار، لتجد الحكومة مضطرة لاعلان الافلاس، أم هل يتم تحريره لينهار الاقتصاد بالكامل فوق رؤوس المواطنين؟

وزير المال غازي وزني جمع في تصريح واحد كل التناقضات اللبنانية عندما قال أخيراً ​بلومبرغ​ أن خسارة الودائع محتملة ولكنها ليست حتمية، ثم عاد وصحح تصريحه، وقال أيضاً: أن تثبيت سعر الصرف ممكن، وكذلك تحريره بنسبة معينة فأكد "ضرورة معالجة قضية النقد، لأنه لا يمكننا الاستمرار في سياسة تثبيت النقد أو نصف النقد كما يحصل في المنصة أو سياسة تعويم النقد، إذ يجب أن يكون هناك قرار بالتعويم أو المرونة في سعر النقد خلال المرحلة المقبلة”، لافتاً إلى أنه "بهذه السياسات يمكننا أن نقول إننا دخلنا فعلياً في تأمين وحماية ما تبقّى من ودائع المودعين في ​القطاع المصرفي اللبناني​".

هل تستطيع حكومة المتاريس السياسية حسم النقاش وازالة التناقضات واتخاذ القرارات؟

الواقع أن الجميع يؤخر تشكيل حكومة لانهم يعرفون انها ستكون عاجزة عن اتخاذ أي قرار مهم، ومن أبرز القرارات العاجلة ترشيد الدعم أو وقفه لأنه يكلف الخزينة 6 مليارات دولار سنويا، كما يقول وزير المال، ولا أحد يريد حمل وزر هكذا قرار ..

الدعم بدأ ينحسر عمليا، ومصرف لبنان يقلصه بقوة الأمر الواقع من خلال تأخير صرف ​الاعتمادات​ المطلوبة بالدولار على السعر الرسمي، وهو يحذر من اقترابه فعلا من الخط الاحمر، اي الاحتياط الالزامي. وبعد أن جرى الحديث عن المنصة الجديدة للدولار بمشاركة المصارف، والتي من شأنها أن تخفض سعر العملة الأميركية الى حدود 10 الاف ليرة، أجمع خبراء الاقتصاد من كافة الانتماءات الفكرية والسياسية، على أن هذه المنصة لن تحل المشكلة اذا لم تتوفر الدولارات الطازجة لضخها في السوق .. ولا احد يجزم أن هذه الدولارات ستأتي، سواء من البنك المركزي او من المصارف، ناهيك عن ​المساعدات​ او ال​قروض​ الخارجية. لذلك بدأنا نسمع أن اطلاق المنصة الجديدة، والذي كان مرجحا منتصف هذا الشهر، قد يتأجل الى تاريخ غير محدد، وقد يكون هو أيضا بات مرتبطا بتشكيل الحكومة .

مرة جديدة نعود الى الحكومة المستقبلية وماذا ستفعل، فهي أن عجزت عن اتخاذ القرارات الكبيرة، وعجزت أيضا عن إيجاد الدولارات المطلوبة، سواء باستعادة ما نهب وما حول الى الخارج بطريقة قانونية ولكن غير أخلاقية، او عبر الحصول على قروض خارجية دسمة، فإنها لن تتمكن من وقف الانهيار بل ستكون شاهدة عليه، تماما كما ستشهد عليه الحكومة المستقيلة الآن ..

الحكومة والانهيار صنوان، وثمة سباق لا يريد الطرفان الانخراط فيه، وعنوانه من يفقر اللبنانيين أولا، هل تترك السلطة السياسية الانهيار يفعل فعله ببطء، ام تتولى هي اعلان الافلاس.

لطالما كان الحل في لبنان مستوردا، وهو اليوم أكثر من أي وقت مضى خارجي بامتياز. في الطبقة السياسية اللبنانية أفلست وانتهى دورها، وبات أطرافها مرتهنين بالكامل لحلفائهم الاقليميين والدوليين، وانخرطوا في لعبة النزاع على لبنان، فاذا تمت تسوية هذا النزاع بشكل ما، وتقرر اعادة احياء البلد المفلس، يمكن الحديث عن حل يوقف الانهيار أو الإفلاس.. وكل ما عدا ذلك، وكل النقاش الداخلي حول ضرورة تشكيل حكومة لوقف الانهيار.. هو مجرد ثرثرة خارج السياق.