شهر جديد من الأزمة يدخله لبنان، مساره الإنهيار والسقوط الحر، وقوامه المزيد من الجدل حيال الإجراءات والتخبط على مستويات القرار كافة في ظل غياب الحلول السياسية.

لبنان البلد المفلس رسمياً منذ 9 آذار 2020، يوم أعلن تخلّفه عن سداد دينه، لم ينجح أهل السياسة والمال حتى اليوم بعد سنة وشهر من هذه المحطة المفصيلة، في تقديم خطة تحمل حلولاً تواكب مسار الإنهيار، وتخفف من الصدمات.

وأبرز معالم الإنهيار الحالي، ​الليرة اللبنانية​ التي تعيش هبوطاً قياسياً غير مسبوق، وسط مشهد اقتصادي صعب، فيما تنقسم الآراء حول صوابية الاتجاه لتعويم سعر صرف الليرة رسمياً، بين الرافض لها الإجراء ويرى فيه تعميقاً للمشكلة، وبين ما يؤكد أن هذا الخيار بات واقعاً فعلياً، وهو الحل.

ويؤكد عميد كلية إدارة الأعمال في "جامعة الحكمة" البروفيسور جورج نعمة في مقابلة مع "الاقتصاد"، أنه "من جهة السياسة النّقدية، هناك الكثير من المتغيّرات التي حصلت منذ 17 تشرين الأول 2019، واليوم السعر الثابت لصرف الليرة مقابل الدّولار المطبّق منذ 25 عاماً إنتهى فعلياً، وما يحصل في السّوق أن سعر الصّرف بات عائماً، يتحكم به العرض والطّلب بوجود المضاربة، وهو ما يسري على غالبية السّلع، ما عدا المدعومة منها ويواصل ​مصرف لبنان​ تأمين الدّولار لها.

ويضيف: "نحن عملياً، دخلنا في تعويم الليرة، ولكن بقي دعم بعض السّلع، ونحن في ​صلب​ هذه المرحلة، وتعويم الليرة اليوم، يُعدُّ شرطاً أساسياً لإعادة إطلاق العجلة الاقتصادية، ولكن هناك محاذير وخطوات يجب أن تؤخذ بعين الإعتبار، حتى نعتمد سعر الصرف العائم، ونحصل على نتائج إيجابية، ونتفادى التّضخم المفرط والتراجع المتزايد في القدرة الشرائية للمواطنين.

مصرف لبنان اليوم، لم تعد لديه القدرة على ضبط السّوق وسعر صرف الليرة، بسبب النقص الحاد في ​العملات​ الصّعبة، والطلب الكبير على الدّولار، بسبب الاستهلاك الكبير للسلع المصنّعة خارج لبنان، إذ نستورد 90% من إستهلاكنا، ما يُحتّم خروج الدّولار من لبنان، في ظل غياب العرض، في ضوء خلل كبير أصاب ميزان المدفوعات منذ العام 2012، وهو التاريخ الذي كان يجب البدء فيه بخطة لتعويم الليرة، والتخلي عن سياسة تثبيت سعر الصّرف وهذا الأمر لم يحصل حينها، واليوم عوض أن يأتي التّعويم اختياريّاً، فُرض التعويم بصيغة إجبارية، دون وجود القدرة للتحضير لهذا المسار النقدي الجديد، لضبط انهيار العملة الوطنية."

كشفت آخر إحصاءات مصرف لبنان ارتفاعاً متواصلاً للكتلة النقدية المتداولة، حيث بلغت قيمته في منتصف شهر آذار 35.980 ألف مليار ليرة مقارنة مع 34.487 ألف مليار ليرة في نهاية شباط، أي بزيادة 1493 مليار ليرة خلال 15 يوماً.. ما تبعات ذلك؟

"عملية طبع النّقد وإغراق السّوق بالعملة الوطنية، تفرض تضخماً مفرطاً، وتراجعاً إضافياً في سعر صرف الليرة مقابل الدّولار، ولمعرفة سبب الارتفاع الكبير في ​الكتلة النقدية​ المتداولة في السّوق خلال الشهرين الماضيين، يجب رصد الاستحقاقات في حينها، وهي استحقاقات مصرفية أساسية من ناحية زيادة الرساميل، ورفع ​السيولة​ بنسبة 3%، إضافة إلى الكثير من المضاربات وحاجة التجار إلى العملة الصعبة، وما يجري من استنفار عام لمرحلة رفع الدّعم الحتمية، وهو ما زاد من مستوى تخزين الدّولار وعدم بيعه، ما أدى إلى ارتفاع في سعر صرف الدّولار، وتسريع مسار الإنهيار.

ومن القرارات التي ساهمت في رفع مستوى طبع النّقد، القرار رقم 151 القاضي بسحب الأموال من ​المصارف​ بالدّولار على سعر صرف 3900 ليرة، وهو ما يحتاج غطاءً نقديّاً أيضاً.

والمشكلة اليوم، أننا لم نشهد بعد أي خطّة لوقف الإنهيار، فمنذ عام ونصف، نعيش مرحلة السّقوط الحر، بغياب أي خطوة جدية للحل.

فالدّولة أعلنت تخلّفها في 9 آذار 2020، عن دفع سداد الدّين، ما يعني عملياً "الإفلاس"، ومنذ تلك الفترة لم نرَ أيّة خطّة أو بوادر لمسار حل واليوم هناك فشل في تشكيل حكومة أيضاً".

تفاؤل وزير المالية بشأن انخفاض واستقرار سعر الصرف، كيف يُمكن قراءته؟ وهل منصة المركزي الجديدة قادرة على تثبيت هذه المعادلة؟

"ليست لدي أي فكرة، على أي أساس يبني وزير المالية "تفاؤله". المسار اليوم واضح ومبني على أسس علمية، وقوامها أننا لا نملك دولار، نستطيع من خلاله ضبط التدهور النّقدي، وهو مبدأ عام لأي حلول.

أما بخصوص منصة مصرف لبنان، والتقارير حول التوجه لبيع المستوردين حصراً الدّولار بسعر صرف 10 آلاف ليرة، فإنه يجب التنبه إلى أن ​النقد الأجنبي​ هذا من الإحتياطي الإلزامي، وهو حقُّ من أموال المودعين، وهذا المسار لن يفي بالغرض، بل ستساهم المنصّة في حال تطبيق هذا الإجراء فيها، بزيادة المضاربات، وخلق المزيد من أسعار الصّرف. وكل هذه الخطوات لازالت غير متناسقة، لن تجدي نفعاً، طالما لا توجد خطّة اقتصادية ومالية ونقدية وحكومة جدية تتبنّاها، فإننا ذاهبون نحو الأسوأ."

تراجع الدّولار المفاجئ حالياً.. ما أسبابه؟

"السّوق حالياً، يخضع لمبدأ الدّولار العائم القائم على العرض والطّلب، واللبنانيون اليوم يعانون من أزمة فقدان الثّقة، وهذه الحالة تحتِّمُ وجود نسب أعلى في مرونة السّوق، بمعنى أنه من يريد أن يضارب اليوم على الدولار في حال كانت المرحلة طابعها مستقرّاً، فإنه يحتاج كميات كبيرة من النّقد الأجنبي ليدخل السّوق مضارباً، بينما الحالة الحالية المتمثلة بفقدان الثّقة، المضاربة بمبالغ صغيرة تعطي نتائج كبيرة في تحرّك الدّولار صعوداً أو هبوطاً، كما نرى حالياً في السّوق، وتحسُّن سعر صرف الليرة اليوم، لا يعني أنّ الاقتصاد يتعافى، وأن الظّروف تسير للأفضل، فالمرحلة اليوم هي للمضاربة وفقدان الثّقة التّامة، ولا توجد أيّة ضوابط تحكم السّوق.

هل بالإمكان إصدار عملات نقدية من فئات أكبر مثل 500 ألف ليرة ومليون ليرة لتسهيل المعاملات وتوفير كلفة ​طباعة​ العملات الورقية؟

"هذا المسار شهدناه في لبنان سابقاً، ففي أواخر ثمانينيات القرن الماضي، ذهبنا إلى رفع قيمة الورقة النقدية، وهو ما استمر حتّى العام 1998، يوم بدأ تثبيت سعر صرف العملة، وتوقف هذا المسار منذ ذلك الحين، واليوم دخلنا إلى واقع جديد، قد نشهد فيه إعادة إصدار عملات نقدية من فئات أكبر.

طباعة الأوراق النقدية من الفئات الأكبر، يُعدُّ مؤشراً على أننا نواصل مسار زيادة مستوى ​التضخم​ المفرط أساساً، والإنهيار الإضافي في قيمة العملة الوطنية. وهناك عامل نفسي يحكم هذا الإجراء، إذ إن رؤية ورقة نقدية واحدة من فئة المليون الليرة، ستساهم في تزايد فقدان الثّقة، فيما التداعيات ستكون أيضاً كارثية."