أضافت وزارة المالية انجازاً جديداً لحكومة تصريف الأعمال بإنجازها مشروع ال​موازنة​ العامة للعام 2021 بغرض إقرارها وإحالتها إلى البرلمان لدراستها وإقرارها بدوره، وهو ما فتح سجالاً دستورياً حول قانونية اجتماع الحكومة المستقيلة لإقرار ​الموازنة​.

الانجازات التي تتغنى بها الحكومة المستقيلة لم تحصد الا الويلات للأسف، ومزيداً من التدّهور الاقتصادي والنقدي، ورفع معدلات ​الفقر​، وزيادة ​هجرة​ ​الشباب​ والأخطر هدم عاصمة عريقة بواسطة اخطر انفجار شهده التاريخ ليلامس الإبادة اليشرية.

تعتبرالموازنة العامة من ابرز البنود الإصلاحيةً الأساسية المطلوبة من ​المجتمع الدولي​ لإجراء انتظام في المالية العامة، للحؤول دون تمادي الحكومة ب​الإنفاق​ المالي وفق القاعدة الاثني عشرية، وهي قاعدة الإنفاق من خارج الموازنة، بناء على الموازنة السابقة، في حين اسفرت الأزمة الاقتصادية عن تراجع ملحوظ في عائدات الدولة وتحصيلها الضريبي، رافقها تعليق دفع خدمة ​الدين العام​ الذي يستنزف جزءاً من الموازنة السنوية، بدون حتى إعلان النوايا للتفاوض مع الدائنين، ما نزع الثقة الدولية بكاملها عن ​لبنان​ الذي انتقل الى ضفة البلدان المتسوّلة.

في خطوة اولى، دعا رئيس لجنة المال والموازنة النائب إبراهيم كنعان الحكومة لأن تجتمع استثنائيا لإحالة مشروع موازنة 2021 إلى ​مجلس النواب​ بعد ما أحالها وزير المالية إلى رئاسة ​مجلس الوزراء​ في ظل الشلل في مسار التأليف و​الوضع المالي​ المتدهور، وضرورة إقرار الإصلاحات المالية، وضبط الإنفاق خارج فوضى الاثني عشرية، وتعزيز اعتمادات وزارة الصحة.

بغض النظر عما جاء في بنودها من أمور لتسيير الإقتصاد وضبط النفقات وترتيب ​الايرادات

كثرت الإجتهادات حول قانونية رفع موازنة من قبل حكومة مستقيلة.

البعض يرى في هذه الخطوة الإحالة ​جائزة​ لأنه عمل غير منشئ لحالة قانونية جديدة، في حين أن إقرار موازنة جديدة هو عمل يتصف بالصفة الإجرائية بامتياز، لأنه يعبر عن توجهات الحكومة وبرنامج عملها وكيفية التصدي للاستحقاقات المالية والتخمينات للأصول وجباية الأموال وتعديل القوانين.

هل أحالة مشروع الموازنة العامة وإقرارها قانوني من قبل حكومة تصريف الأعمال؟

وفق دراسة لفريق عمل مؤسسة "جوستيسيا" الحقوقية برئاسة الدكتور بول مرقص: تنصّ الفقرة /2/ من المادة /64/ من الدستور اللبناني على أن"لا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة ولا بعد إستقالتها أو إعتبارها مستقيلة إلاّ بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال".

وإن كان البعض يسأل لماذا لم يحدّد الدستور اللبناني مساحة تصريف الأعمال، فالإجابة تكمن ببساطة في أن تصريف الأعمال مرتبط بالضرورات الملحّة التي تمرّ بها البلاد في ظروف لم يكن ممكناً التكهّن بها. وعليه، أن اجتماع الحكومة المستقيلة واجب عليها لمواجهة جائحة كورونا مثلاً لاتخاذ تدابير عاجلة، بينما هوغير جائز لإقرار مسوّدة مشروع قانون الموازنة وإحالته للمجلس النيابي، تبعاً للمبرّرات التي تملي كلاً من الموقفين المتمايزين ولو في معرض ظروف واحدة. وبمعنى أدقّ، ليست هذه الظروف الاستثنائية وحدها التي تحكم اجتماع الحكومة بل المبرّرات التي تكون أملتها هذه الظروف والتي تستوجب الاجتماع واتخاذ مقرّرات ضرورية لا تحتمل أن تترك لحكومة جديدة.

كما انه ليس الموضوع ما إذا كان "يجوز"للحكومة المستقيلة الاجتماع لمواجهة الوباء لأنه "واجب" عليها تحت طائلة المسؤولية. فلا يقوم مقامها المجلس الأعلى للدفاع ولا اللجان الوزارية. ذلك أن قرار إقفال البلاد واتخاذ تدابير استثنائية كتسليم الجيش المرفق الصحي واستدعاء بعض الإحتياط من الأطباء والممرّضين المتقاعدين وإشراك المجتمع المدني والشركات الخاصة في المساعدة مقابل حوافز استثنائية وال​رقابة​ على المستشفيات و​الأدوية​ وأدوات العلاج وصولاً إلى مصادرتها، كل ذلك من صلاحية مجلس الوزراء في حال إعلان حالة الطوارئ أو التعبئة العامة وفقاً للمادة/65/ من الدستور التي أناطت به السلطة الإجرائية.

وفي هذا السياق، فالأعمال التصرفية وخصوصاً تلك التي تطرأ خلال أوضاع إستثنائية، رغم خطورتها، تكون في بعض الأحيان طارئة ﻭﻣﻠﺣّﺔ لإرتباطها مثلاً بالسلامة العامة كوباء كورونا. وهذا ما أكد عليه المجلس الدستوري اللبناني أيضاً إذ عرّف نظريةّ الظروف الاستثنائية بأنها "ظروف شاذة خارقة تهدد السلامة العامة والأمن والنظام العام في البلاد".

ولكن إتساع تصريف الأعمال الى متى؟

تحدد الدراسة مفهوم تصريف الأعمال بالمعنى الضيّق وإتساعه كّلما طالت فترة تشكيل الحكومة الجديدة. كذلك الأمرعند مواجهة حالة طارئة أو إستثنائية على حدّ ما ذهبت الإجتهادات اللّبنانية والفرنسية كما الفقه في ​بلجيكا​ التي قاست مثلنا التأخير الحكومي، حفاظاً على المصلحة العامة وعلى إستمرارية المرفق العام. في هذه الحالة إن جميع مقررات مجلس الوزراء تخضع لرقابة القضاء الإداريّ، ليس لجهة مشروعية القرارات فحسب بل أيضاً مدى إندراجها ضمن حدود تصريف الأعمال، منعاً لتجاوز حدّ السلطة.

بناءً على ما تقدم، قامت سوابق أقلّ شأناً من مواجهة تفشّي وباء صحّي قاتل، ذلك عندما أقرّت حكومة المرحوم رشيد كرامي المستقيلة مشروع الموازنة عام 1969، وكذلك عندما إجتمعت حكومة د. سليم الحص المستقيلة لإقرار مجموعة من مشاريع القوانين عام 1979، وعندما شكّلت حكومة السيد ​نجيب ميقاتي​ المستقيلة الهيئة الإشراف على الإنتخابات عام 2013 بناء على رأي هيئة التشريع والاستشارات آنذاك، وآخرها تسليم حكومة السيد ​سعد الحريري​ المستقيلة الترخيص للشركات الأوروبية للتنقيب عن ​النفط​ والغاز في كانون الأول عام 2019.

ما هي المبرّرات التي تمنع الحكومة الراهنة من إقرار مشروع الموازنة؟

الحكومة المستقيلة لا تستطيع إقرار مشروع الموازنة لأسباب هي:

1- غياب الرقابة البرلمانية: تزول مسؤولية الحكومة تجاه مجلس النواب عند استقالتها، مما يضعها خارج نطاق رقابة المجلس الذي يفقد قدرته على سحب الثقة منها. لذلك، من البديهي الحدّ من صلاحيات الحكومة المستقيلة. ولا يُردّ على ذلك بالقول أن حكومة رئيس الوزراء السابق ميقاتي قد مثلت أمام المجلس، فما بني على باطل هو باطل. أما إقرار مشروع الموازنة من حكومة ما قبل الطائف فلا ينسحب على دستور ما بعد الطائف الذي جاء يقصّر تصريف الأعمال على "المعنى الضيّق".

2- توافر بدائل دستورية: عرّف اجتهاد لمجلس شورى الدولة "الأعمال الجارية" بالأعمال الملحة الضاغطة والتي لا تحتمل الإرجاء لحين تأليف الوزارة الجديدة والتي بسبب ضرورتها تستوجب اتخاذ قرارات فورية أو تكون مقتصرة على تنفيذ الإدارة اليومية "من دون أن تنطوي على صعوبات خاصة أو على أي خيار" لا يؤثر في المستقبل

هل ينطبق ذلك على إقرار مشروع قانون الموازنة؟!

بالطبع لا، فثمّة خيار آخر على مرارته هو إتّباع القاعدة الإثنتي عشرية التي عاش لبنان في ظلّها سنين طويلة والتي كان جاء النص عليها في قانون ​المحاسبة​ العمومية تحوّطاً للتأخير الحكومي.

3- عدم ترتيب أعباء يجب تركها للحكومة القادمة: الموازنة عمل سنوي يتضمّن رسوماً وضرائب واعفاءات وتسويات وأعباء ليس بوسع حكومة مستقيلة فرضها وتحميلها لحكومة تخلفها. وهذا ما يستفاد من الإجتهاد الإداري الذي يرفض كل عمل صادر عن حكومة مستقيلة يرتّب أعباء وموجبات جديدة على الحكومة التي ستخلفها، وكل عمل يرمي إلى تحديد سياسة البلاد المستقبلية. فحتّى ولو أخذنا بالمفهوم الواسع لتصريف الأعمال، فحسب الإجتهاد الفرنسي تبقى الموازنة من فئة المحظورات على حكومة مهمتها الوحيدة تصريف الأعمال.

4- الموازنة هي الوجهة الاصلاحية لحكومة آتية لا حكومة مغادرة: الموازنة يجب أن تعكس الخطة الاصلاحية والرؤية التصحيحية والانمائية التي ستعكف الحكومة الجديدة على تنفيذها في ضوء متطلّبات التوافق مع صندوق النقد الدولي على برنامج انقاذي للتعافي الاقتصادي. وإلا فما معنى إذاً لموازنة جديدة لم تعد في مفهوم ​علم​ المالية العامة الحديث تقتصر على حسبة الايرادات والنفقات؟

5- تجنّب الإحراج: اجتماع الحكومة المستقيلة لإقرار مشروع الموازنة من شأنه أن يحرج الحكومة الجديدة. وهل ننسى مشهد حكومة د. دياب في مجلس النواب وهي تتبنّى موازنة حكومة سابقة لا ناقة فيها ولا جمل؟

6- عدم تشريع الفراغ: لعلّ أبرز الأسباب التي تحدو لمعارضة اجتماع الحكومة المستقيلة بغية إقرار مشروع الموازنة أن الذهاب إلى هذا الخيار يعني إقراراً بانتفاء الحاجة إلى حكومة جديدة وتكريس تصريف الأعمال إلى فترة أطول. فلماذا تشكيل حكومة جديدة إذاً؟

المرجع الدستوري البلجيكي المعارض لمثل هذا الجنوح الدستوري Christian Behrendt يقول: "هذه إحدى ركائز قانوننا الدستوري. لطالما درّست في محاضراتي أن هذا غير مسموح به (اقرار حكومة تصريف الأعمال مشروع الموازنة)... أحد الإمتيازات الأساسية لحكومة كاملة الصلاحية هو الموازنة تحديداً! فإذا أقرّينا الآن لحكومة تصريف الأعما ل بجوازإعداد الموازنة، فماذا يبقى من فارق بينهما؟"