بعد ساعات قليلة، سوف نودّع عام 2020، الذي كان الأسوأ والأصعب على البشرية جمعاء، حيث انتشر وباء "كورونا"، وقاربت الوفيات حدود المليونين ضحية. أما في لبنان، فبالإضافة الى "كورونا" وتداعياته، نواجه سنة نارية بامتياز على مختلف الصعد؛ ماليا، اقتصاديا، اجتماعيا، سياسيا،...

كان 2020 عامًا ثقيلًا على القلوب والنفوس، وسينتهي اليوم ليذكرنا بأن كل شيء إلى زوال؛ فالفرح ينتهي، وكذلك الألم، يخفت ويزول.

وفي حين يحلم الجميع بأن تعود الحياة الى ما كانت عليه، يبقى الأفق مسدودا، والمستقبل ضبابيا، ورغم ذلك، لن نتخلى عن الأمل والإيجابية، وسنستقبل قريبا عامنا الجديد بالتفاؤل والأحلام والآمال، علّه يكون نهاية لكل الحزن والتعب والألم.

استقبلوا العام الجديد بابتسامة الأمل والتفاؤل، اذ أن نظرتنا للسنة المقبلة تعكس نظرتنا الى الحياة. نسأل الله أن يجعل هذا العام عام خير وبركة وسعادة وأمان.

سنختم عام 2020 بهذه المقابلة الخاصة والشاملة، مع كبير الاقتصاديين ورئيس قسم الأبحاث لدى "​بنك عودة​"، د. مروان بركات، الذي عرض بالأرقام، لأهم المؤشرات الاقتصادية:

- كيف تقيم الأوضاع الاقتصادية في عام 2020؟

إن ​الأزمة الاقتصادية​ الحادة التي اندلعت منذ الفصل الأخير من العام 2019، إضافةً إلى إعلان ​الدولة اللبنانية​ عن تعثّرها عن سداد ديونها ب​العملات​ الأجنبية في الفصل الأول من العام 2020، وتدهور ​الوضع النقدي​ في سياق التفاوت الملحوظ بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف السائد في السوق الموازية، ناهيك عن تفشي وباء "كورونا"، والذي نجم عنه إغلاق للبلد لعدد من الأسابيع، مروراً بانفجار مرفأ بيروت في 4 آب، كلها عوامل أرخت بثقلها على ​النشاط الاقتصادي​ بشكل عام، وأدّت إلى ركود حادّ في أداء القطاع الحقيقي وتردٍّ في الأوضاع المالية والنقدية وضغوط اقتصادية واجتماعية على الأسر بشكل خاص.

هذا ويقدّر ​صندوق النقد الدولي​ أن يسجل ​الناتج المحلي​ الإجمالي الحقيقي في لبنان انكماشاً بنسبة 25% في العام 2020، وفق تقريره النصف سنوي عن آفاق الاقتصاد العالمي، أي ثالث أسوأ أداء حول العالم بعد ​ليبيا​ و​فنزويلا​.

في الواقع، إن الناتج المحلي الإجمالي الإسمي في لبنان انكمش من 52.5 مليار دولار في العام 2019 إلى 18.7 مليار دولار في العام 2020، ما يعني تراجعاً بنسبة 64% بالقيم الإسمية، منها تقلص بنسبة 25% بالقيم الحقيقية وتراجع بنسبة 39% في أسعار السلع والخدمات ب​الدولار​. هذا وفي حين أن الناتج المحلي الإجمالي بالليرة قد ارتفع بنسبة 18% هذه السنة بالمقارنة مع السنة الماضية، إلا أن هذا التراجع الملحوظ في الناتج المحلي الإجمالي الإسمي بالدولار يعود إلى أن الصندوق قد اعتمد متوسط سعر صرف بحدود 5000 ليرة للدولار في عملية تحويل الناتج المحلي الإجمالي الإسمي من الليرة إلى الدولار للعام 2020 بالمقارنة مع سعر الصرف الرسمي الذي كان معتمداً خلال العام الماضي وهو السعر الرسمي أي 1507.5.

عليه، فقد تراجع الناتج المحلي الفردي في لبنان من 7660 دولار في العام 2019 (في المرتبة 85 من بين 192 بلد حول العالم) إلى 2745 دولار في العام 2020 (في المرتبة 135 عالمياً).

في الواقع، يُعزى هذا ​الركود​ الاقتصادي في لبنان إلى انكماش الإنفاق الخاص، بشقيه الاستهلاكي والاستثماري. إذ انخفض الاستهلاك بشكل ملحوظ كما عكسه ​الانكماش​ بنسبة 50% في ​الواردات​ هذا العام، في حين أن الاستثمار يكاد يكون معدوماً في ظلّ توجّه المستثمرين من ​القطاع الخاص​ بإلغاء أو تأجيل قراراتهم الاستثمارية وسط ارتفاع مستوى عدم اليقين في البلاد. في المقابل، فإن التراجع الصافي في ​الإنفاق العام​ لم يساهم في تعويض الانكماش في الإنفاق الخاص، لا سيّما وأن الدولة اللبنانية دخلت حقبة من متطلّبات تقشفية صارمة مدفوعة بالاختلالات القائمة على صعيد ماليتها العامة.

على الصعيد النقدي، سجل مؤشر أسعار الاستهلاك بالليرة ارتفاعاً ملحوظاً بنسبة 111% في شهر تشرين الأول 2020 بالمقارنة مع تشرين الأول 2019، ما يعني بأن البلاد قد وقعت في فخ الركود التضخمي. في هذا السياق، توقّع صندوق النقد الدولي أن تبلغ نسبة التضخم في نهاية العام 2020 حوالي 145% (وهي رابع أعلى نسبة حول العالم)، وذلك في سياق التفاوت الملموس بين سعر الصرف الرسمي (1507.5) وسعر الصرف في السوق الموازية (3900) وسعر الصرف في ​السوق السوداء​ (8500). وهو ما خلق ضغوطاً اقتصادية واجتماعية جمّة على الأسر اللبنانية ليرفع بذلك من نسب البطالة مع خسارة أكثر من ثلث اللبنانيين لوظائفهم.

أما على صعيد ​القطاع المصرفي​، ففي حين أن الأخير قد شكّل العمود الفقري للاقتصاد اللبناني على مدى العقود الثلاثة الماضية، من الواضح أن الظروف التشغيلية للقطاع المصرفي قد تردّت بشكل ملحوظ، خصوصاً عندما تعثّرت الدولة في سداد سنداتها من اليوروبوند والتي تستحوذ منها المصارف على 10 مليارات دولار، ومع تنامي الشكوك حول مصير الودائع بالعملات لدى ​مصرف لبنان​. كما شهد القطاع المصرفي انكماشاً في الودائع بنحو 33 مليار دولار منذ بداية العام 2019 ترافق مع تقلّص في محفظة ​التسليفات​ بأكثر من 22 مليار دولار خلال الفترة نفسها، وهو ما يمثّل ثلثي انكماش الودائع المصرفية. في موازاة ذلك، تكبّد القطاع المصرفية خسائر لاحقة، حيث انخفضت الأموال الخاصة بنحو ملياري دولار خلال العام الماضي، وذلك من 20 مليار دولار إلى 18 مليار دولار. في ظل هذا المناخ، ما يزال القطاع المصرفي اليوم لا يحتاج إلى تعويم خارجي، فالمصارف تحتاج فقط إلى أن تسدّد الدولة اللبنانية (حكومة ومصرف لبنان) مستحقاتها. وإذا حصل ذلك، أكان من خلال إنشاء صندوق سيادي أو بيع بعض أملاك الدولة أو خصخصة بعض مؤسساتها، فإن وضعية ​السيولة​ لدى المصارف من شأنها أن تتعزّز مع قيام الدولة بسداد جزء من السيولة المستحقة للمصارف.

- آفاق وتحديات العام 2021.

في العام 2021، يتعيّن على لبنان أن يواجه خمسة تحديات اقتصادية رئيسية ألا وهي:

أولاً، وضع الشأن النقدي على المسار السليم في ظل تراجع احتياطيات مصرف لبنان الأجنبية السائلة إلى ما دون 18 مليار دولار في ظل الحاجات التمويلية الملحوظة بالعملات الأجنبية والمقدرة بحوالي 7 مليارات دولار سنوياً. من هنا أهمية ​المساعدات​ الخارجية برعاية الدولة الفرنسية وإرساء برنامج كامل مع صندوق النقد الدولي من قبل الحكومة العتيدة يضمن مصداقية الدولة في تنفيذ الإصلاحات الموعودة ويكون له أثر الرافعة على الدول المانحة بشكل عام.

في الواقع، تواجه الدولة اللبنانية مفارقة صعبة بسيف ذو حدّين:

- إما أن تقرر رفع الدعم مع بداية العام المقبل، مما يعني تضخماً مفرطاً في الأسعار وضغوطاً اجتماعية واقتصادية إضافية على الأسر، حيث ستتضخّم أسعار القمح و​البنزين​ و​الأدوية​ بنسبة 400% إذا ما احتُسبت على أساس سعر الصرف في السوق السوداء، وهذا يعني ارتفاعاً إضافياً بنسبة 100% في ​مؤشر أسعار المستهلكين​ الذي بلغ 111% على أساس سنوي في شهر تشرين الأول.

- أو أن تقرّر مواصلة الدعم، ما يعني وضع احتياطيات العملات الأجنبية المطلوبة على المحك (أي أنها ستغرف من مخزون الاحتياطي الإلزامي للمصارف اللبنانية بالعملات الأجنبية والمقدّر بحوالي 17 مليار دولار) وبالتالي وضع ودائع الزبائن بالعملات الأجنبية على المحك في نهاية المطاف.

إن بصيص الأمل الذي يبرز على هذا الصعيد يكمن في بذل كافة الجهود لتشكيل الحكومة العتيدة، على أمل إزالة العقبات الحالية التي تواجه التشكيل، وتشكيل حكومة ذات مصداقية بشكل وشيك، وإطلاق الإصلاحات الهيكلية وبالتالي تعبيد الطريق أمام عقد مؤتمر دولي داعم للبنان.

ثانياً، إصلاح القطاع المصرفي بجهود إعادة الهيكلة لتعزيز وضعيته المالية وحوكمته وقدرته على مواجهة الضغوط. المطلوب أولاً وقبل كل شيء توحيد إجراءات ضبط حركة الأموال بموجب مشروع قانون Capital Control تعدّه الحكومة العتيدة ويعتمده مجلس النواب، من أجل ضمان معاملة عادلة ومنصفة لجميع الزبائن وخفض الاستنسابية بين المصارف والحدّ من المخاطر القانونية إزاء القطاع المصرفي. ولكن إعادة الهيكلة مطلوبة أيضاً. ففي ظلّ وجود قطاع مصرفي يتجاوز 3 مرات الناتج المحلي الإجمالي، من الطبيعي القول بأن بُعد ​القطاع المصرفي اللبناني​ ضخم مقارنةً ببُعد الاقتصاد الوطني. في الواقع، يعتبر القطاع المصرفي اللبناني أحد أكبر القطاعات في العالم من حيث نسبة الأصول المصرفية إلى الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي فإن حجم هذه الأصول المصرفية أكبر مما هو مطلوب لتحقيق تمويل الاقتصاد المنتج. من هنا، فإن إجمالي أصول القطاع المصرفي في لبنان يجب أن يتقلّص إلى حوالي 150% من الناتج المحلي الإجمالي بُعيد إعادة الهيكلة تماشياً مع البلاد ذات البنى الاقتصادية المشابهة للبنان.

ثالثاً، تصحيح الاختلالات القائمة على صعيد المالية العامة التي تشكّل عنصر الهشاشة الأبرز حالياً في الاقتصاد الوطني، علماً أن النموذج القائم حول تمويل العجز المالي العام عن طريق الودائع المصرفية غير قابل للاستدامة، إذ أن قاعدة الودائع انخفضت بمقدار 15 مليار دولار في العام 2019 وبمقدار 18 مليار دولار إضافية في الأشهر العشرة الأولى من العام 2020. من هنا أهمية خفض الدولة لحاجاتها التمويلية عن طريق تعزيز الإيرادات وتحسين الجباية ومكافحة التهرّب الضريبي و​خفض الإنفاق​ وخدمة الدين وإصلاح قطاع ​الكهرباء​ وخصخصة بعض المؤسسات العامة من أجل خفض نسب العجز والاستدانة.

رابعاً، تصحيح القطاع الخارجي مع تفاقم الاختلالات الخارجية، علماً أن النموذج القائم على استدامة ​العجز التجاري​ بالاعتماد على تدفقات الأموال الوافدة لم يعد قابلاً للاستمرار نظراً إلى التراجع الملحوظ في حركة التدفقات المالية. هناك إمكانية لتحقيق توازن في ميزان المدفوعات من خلال تخفيض حجم الواردات بشكل إضافي وزيادة الصادرات وتحفيز حركة الأموال الوافدة. من هنا أهمية إعادة إحياء قدرة لبنان على اجتذاب الرساميل عير تعزيز عامل الثقة وتحفيز الإنتاج المحلي والتصدير عن طريق دعم القطاعات ذات القيمة المضافة العالية في لبنان، ووضع القيود والرسوم على الاستيراد الذي يستنزف الموجودات الخارجية للقطاع المالي اللبناني.

خامساً، إعادة ​النمو الاقتصادي​ وخلق الوظائف، بعد انتقال الاقتصاد الوطني حالياً من حلقة النمو المنخفض إلى وضعية الركود التضخمي في ظلّ انخفاض الناتج المحلي الفعلي بما يزيد عن 25% هذا العام وارتفاع نسبة التضخم إلى ما يزيد عن 100%. من هنا أهمية تحفيز الاستثمار الخاص الذي له رافعة على النمو الاقتصادي خصوصاً في ظل استحالة تعزيز الإنفاق العام نظراً لضرورة الإجراءات التقشفية. وهنا تبرز أهمية تحفيض النفقات التشغيلية وتحسين معايير مزاولة الأعمال وخفض معدلات الفوائد التي كان لها آثار استبعادية على الاستثمار الخاص خلال العقد المنصرم.

في الختام، لا شكّ في أن الاختلالات البنيوية القائمة في لبنان حالياً جسيمة بلا شكّ، إلا أن المخارج ما زالت متاحة إذا صدقت النوايا وتمّ اتخاذ خيارات وتدابير جذرية دون أي مماطلة من قبل الحكومة العتيدة والسلطات المعنيّة تعبُر بلبنان إلى برّ الأمان.