لا عجب ان يحتدم السجال حول التدقيق الجنائي في حسابات ​مصرف لبنان​ ويتحول الى ازمة سياسية تنخرط فيها القوى والاحزاب وان يمتد الخلاف حول مقاربة الموضوع انتقلت الى داخل الصف الحزبي الواحد.

الخطورة تكمن في ان هذا النقاش وعلى خلاف المرات السابقة في قضايا اخرى ، ليس ترفا سياسيا قد تجد القوى السياسية فيه مناسبة لاطلاق المواقف الشعبوية واستقطاب اصوات الناخبين في اللعبة الديمقراطية السقيمة المسماة ​انتخابات​ نيابية (على الطريقة اللبنانية).

الموضوع هذه المرة مختلف لانه يتعلق بالامن الغذائي والاجتماعي ، فمنذ اشهر يعيش المواطنون في رعب حقيقي بسبب ​الاعلانات​ المتكررة عن استنفاد مصرف لبنان لاحتياطاته واضطراره بالتالي لوقف الدعم عن السلع الاستراتيجية: ​المحروقات​ والدواء و​القمح​.

المعادلة بسيطة: اذا عرفنا حقيقة وضعنا المالي، يمكن عندها تحديد الاولويات، وتوجيه الدعم، واطالة امده الى اطول فترة ممكنة، ولكن اذا بقينا في الظلام سنتخبط في الازمة من دون اي امكانية للخروج منها، وسنفاجىء ذات يوم بارتفاع ​جنوني​ لاسعار هذه السلع، عندما نضطر لشرائها على اساس دولار بثمانية الاف ليرة او اكثر، بحيث تعجز الغالبية الساحقة من اللبنانيين من تحملها: انها ​المجاعة​.

هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فان التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان سيحدد الخسائر، كشرط اساسي لمعالجتها، ومن ثم البحث في امكانية اعادة النهوض. والتدقيق يعني الكشف على كل شيء ، وخصوصا حركة الاموال المشبوهة للسياسيين بوصفهم هم كبار المودعين، وهم بالحقيقة شركاء اساسيين في ​المصارف​ المتورطة بالهندسات المالية المشبوهة، لذا تصبح الحماوة السياسية في مقاربة التدقيق مفهومة.

التدقيق الجنائي يفترض ان يشمل مرحلة ما بعد الطائف ، اي منذ العام 1990، وخصوصا الفترة التي سبقت ثورة 17 تشرين، اي منذ العام 2017، ثم ما بعد 17 تشرين، وصولا الى اليوم. وما يؤكد الاهمية الوجودية والمصيرية للتدقيق ما يتداول حاليا عن تفرد حاكم مصرف لبنان في ادارة الشأن النقدي، وتجاهله التام للسلطة السياسية القائمة، يساعده وجود مجلس مركزي للمصرف ليس سوى واجهة للطبقة السياسية الفاسدة التي اوصلت البلد الى الافلاس والانهيار.

الارقام الاخيرة لا تبشر بالخير. يقول المحلل الاقتصادي عبادة اللدن: خلال 3 اشهر فقط، اي من نهاية شهر حزيران حتى نهاية شهر ايلول 2020، انخفضت الاحتياطات النقدية 6 مليارات دولار لدى مصرف لبنان، وهذا استنزاف ضخم، يكذّب الاعتقاد الشائع بان دعم السلع الاساسية، اي المحروقات والدواء والطحين، هو الذي يستهلك ​دولارات​ المصرف المركزي. وما يؤكد على ذلك ان العجز في ​الميزان التجاري​ اقل من ذلك بكثير، والاستهلاك انخفض كثيرا عن مرحلة ما قبل 17 تشرين 2019.

بالاضافة الى ذلك فان ​العجز النقدي​ زاد بما قيمته 5 مليارات دولار في شهرين فقط، ما يفتح الباب امام احد اخطر التفسيرات لذلك، وهو ان المصرف المركزي يسدد للمصارف "مستحقاتها" سرا بعد توقف دام لاشهر.

هذه المسالة وحدها تحتاج الى تدقيق.

ان وتيرة استنزاف الدولارات من المركزي اكبر يكثير من الحاجات الاستهلاكية، وقبل ان يخرج علينا مصرف لبنان باعلان وقف الدعم (اي اعلان المجاعة) ينبغي ان يقدم تفسيرا واضحا لميزانيته، وما هو الحجم الحقيقي لاحتياطاته، وكيف يتصرف بها.

قصة التدقيق الجنائي صارت مثل قصة ابريق ​الزيت​ ، فقد عجزت شركة الفاريز اند مارشال، عن القيام بمهمتها بسبب عدم تزويدها بالمستندات والارقام اللازمة، بذريعة قانونية معلنة هي ​السرية المصرفية​، وبذريعة سياسية غير معلنة تترجم المقولة الشعبية "شو وقفت عليي "، اي ان المدافعين عن الظلام في حسابات مصرف لبنان، اعتبروا ان التدقيق الجنائي يجب ان يشمل كل وزارات وادارت الدولة، والا اعتبر التدقيق استهدافا سياسيا لجهة دون الاخرين.

هذا الهراء السياسي اللبناني صار مقرفا وممجوجا. صحيح ان المطلوب التدقيق الشامل ولكن ينبغي البدء من مكان ما، وهذا المكان ليس عاديا، فهو كالشريان الابهر في جسم الانسان، يوزع الدم على كل اعضاء الجسم، فاذا اصيب بعلة صارت كل اعضاء الجسم مهددة بالتلف.. وبالتالي موت الجسم.

انه المصرف المركزي، ​بيت المال​، ومستودع كل اسرار الدولة و​الفساد​ والتحايل على القوانين والهدر والسرقة التي ارتكبها ​السياسيون​ طوال عقود.

في المصرف المركزي نستطيع ان نعرف كيف استنزفت ​الكهرباء​ عشرات مليارات الدولارات، وكيف سرقت عائدات الخليوي بمليارات الدولارات، وكيف سقطت ​الليرة اللبنانية​ تحت ضربات الهندسات المالية المشبوهة، وكيف اغتنى اصحاب المصارف المتباكين اليوم على مستحقاتهم، وهم في الحقيقة يضحكون في سرهم لان "المركزي" يسدد لهم هذه المستحقات من اللحم الحي للمواطن.

الجدل البيزنطي حول قضية التدقيق الجنائي يجب ان ينتهي بايجاد الآلية المناسبة ، لتمكين شركة التدقيق من القيام بعملها ، والاختلاف حول الآلية شكلي ومجرد قنبلة للتعمية، اذ يعتبر البعض أنّ بوسع وزارة المال رفع السرية المصرفية عن حساباتها حتى يكون مصرف لبنان ملزماً بتسليم كلّ ما تطلبه شركة التدقيق فيما يعتبر البعض الآخر أنّ حلّ هذه المسألة يتطلّب تعديلاً بسيطاً. أما وجهة النظر الثالثة فتقول إن حلّ هذا السجال يحتاج إلى تشريع جديد.وثمة من يقول انه يكفي أن يطلب القضاء داتا مصرف لبنان حتى تُحلّ كلّ هذه الجدلية.

في هذا الاطار كان لافتا السجال بين وزيرة العدل ماري كلود نجم ورئيس لجنة المال و​الموازنة​ النائب ​ابراهيم كنعان​ حول العقد الموقع مع شركة الفاريز اند مارشال وهل تعيقه السرية المصرفية ام لا ؟ فالخلاف هنا بين اهل ​البيت​ الواحد . وانتهى الامر بصلحة في بعبدا بينهما. وقبل ذلك شهد القصر الجمهوري اجتماعا قيل خلاله لوزير المال غازي وزني ان يطلب من مصرف لبنان رفع السرية المصرفية عن حسابات الوزارة فينتهي الامر ، ولكنه رفض.

انتقل النقاش الى المجلس النيابي، فسارع نائب رئيسه ايلي الفرزلي الى رفض اي مس بقانون السرية المصرفية . وقدمت القوات اللبنانية اقتراح قانون يجمد موقتا بعض احكام قانون السرية المصرفية، علما ان التيار الوطني الحر كان قد اعلن نيته بتقديم اقتراح مماثل.

اقتراح "القوات" يحل المشكلة ولا حاجة لاقتراحات اخرى، الا اذا ارادت الاحزاب السياسية تكرار مهزلة قانون استعادة الاموال المنهوبة . والاقتراح ينص على : "يعلق العمل بقانون سرية المصارف الصادر بتاريخ 3/9/1956 وجميع المواد التي تشير اليه، لمدة سنة، تسري من تاريخ نشر هذا القانون في كل ما يتعلق بعمليات التدقيق المالي و/او التحقيق الجنائي التي تقررها الحكومة على حسابات المصرف المركزي، ايا تكن طبيعة هذه الحسابات ولغايات هذا التدقيق ولمصلحة القائمين به حصرا، وسواء تمت بواسطة اشخاص من الحق العام او من الحق الخاص محلية او دولية. يشمل مفعول التعليق كل الحسابات التي تدخل في عمليات التدقيق... و تبقى احكام قانون سرية المصارف سارية في كل ما عدا ذلك".

رئيس ​لجنة الادارة​ والعدل النيابية النائب ​جورج عدوان​ قال خلال تقديم الاقتراح: في العام 2017 طالبنا المجلس النيابي بتشكيل لجنة تحقيق برلمانية لأن مسار الأمور في مصرف لبنان وفي مالية الدولة ذاهب نحو الانهيار.

المجلس النيابي لم يتجاوب يومها، وحصل الانهيار، ولا احد يصدق اليوم انه سيقر هذا الاقتراح لاسقاط ذرائع الظلاميين في المالية العامة. وكذلك فان احدا لا يعول على تدخل القضاء المرتهن للسلطة السياسية.. وبطبيعة الحال فان وزير المال سيمتنع عن رفع السرية المصرفية عن حسابات الدولة لان مرجعيته السياسية لا تريد.

انها قصة ابريق الزيت.. الفاسد.