الدعوة للانفتاح على ​الصين​ وإحضارها للاستثمار في لبنان قديمة، ولم يقدم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله جديداً عندما قال تكراراً بالاعتماد على المارد الآسيوي، صاحب ثاني اقوى اقتصاد في العالم، للخروج من الضائقة اللبنانية، فقد سبق للحكومة اللبنانية برئاسة ​سعد الحريري​ أن رعت مؤتمرات عدة تحت عنوان إشراك لبنان في مبادرة طريق الحرير الصينية.

الإمكانية والجدوى

الخشية في ما خص الصين، أن يتحول النقاش من الجدوى الاقتصادية للعلاقات اللبنانية – الصينية، إلى الأولويات السياسية، فمن الواضح أن نصر الله يريد كسر ما يسميه "الحصار الأميركي" على لبنان، وقد قالها بوضوح، في حين أن البحث في أي استثمار مالي اقتصادي، وإن كان غير منزّه أو بعيد عن الاستثمار السياسي للشركاء فيه، ينبغي أن يركز على الإمكانية والجدوى الاقتصاديين، وليس التموضع أو تصفية الحسابات سياسيا.

لا استعداء

ومن جهة ثانية، فإن خيار التوجّه شرقاً يجب أن لا يعني استعداء الغرب أو الانقطاع عنه، ويكفي أن نذكر المتحمسين لتغيير الخيارات أن الصين نفسها هي صاحبة ​الاستثمارات​ الأكبر على الاطلاق في ​الاقتصاد الأميركي​ خصوصا، والغربي عموماً، وكذلك يستثمر الغرب عشرات مليارات الدولارات في الصين، كما تحمل الأخيرة محفظة ضخمة من ​السندات الأميركية​ تزيد قيمتها عن تريليون دولار، في مقابل حصول الصين على أفضلية استقدام مئات ​الشركات الأميركية​ للعمل في أراضيها.

خيار اقتصادي

إذا الخيار هنا ليس إيديولوجيا، كما كان إبان ​الحرب الباردة​، أي بين الكتلة الشرقية (السوفياتية)، والكتلة الغربية، فحقيقة الأمر أن هذه الحدود سقطت منذ تسعينيات القرن الماضي، وصار للكتلتين علاقات اقتصادية ومالية وثيقة في إطار الشراكة ​التنافسية​ بين اقتصادات رأسمالية، ولا يوجد في العالم اليوم سوى اقتصاد واحد اشتراكي الهوى وموجه بالكامل من الدولة، في ​كوريا الشمالية​.

الصين والخليج

لا يقتصر الأمر على الدول العظمى، فالعلاقات التبادلية صارت قدراً محتوما، والدول العظمى الذكية هي التي تقتنص أفضل ​فرص الاستثمار​، حتى في قلب معاقل نفوذ الدول الأخرى المنافسة.

وكذلك فإن دول العالم كافة تستفيد من تعدد الخيارات أمامها للحصول على مكتسبات. هذا ما فعلته ​دول الخليج​ العربي المصنفة حليفاً تقليديا للغرب، فقد استطاعت الصين أن تخترق الأحادية الأميركية، وحققت الاستفادة لها ولشركائها ​الخليجيين​ الجدد.

رفعت ​بكين​ شعار ال​تجارة​ كعنوان لتعاملها مع دول الخليج، كي لا تصطدم بالولايات المتحدة. وبدأت الشركات الحكومية والخاصة الصينية بالتوجه إلى تلك المنطقة وتوقيع العقود من نظيراتها الخليجية في مجالات ​النفط​ والبناء وتجارة السلع. وخلال سنوات قليلة تمكنت الصين من بناء مواقع قوية لها هناك، لا سيما في ​السعودية​ و​الإمارات​. وقد بدأت الصين علاقاتها مع دول الخليج في مجال شراء النفط، وصارت بكين المشتري العالمي الاول للنفط السعودي والإماراتي. ودخلت العلاقات بين الجانبين مرحلة جديدة تجلت في سعي بكين لتحويل الخليج وخاصة ​دبي​ إلى قاعدة ضخمة لتوزيع السلع الصينية في دول ​الشرق الاوسط​. وقد استفادت ​الشركات الصينية​ من وجود منطقة التجارة العربية الحرة لنقل السلع الصينية دون عوائق جمركية من دبي الى بقية ​الدول العربية​، ثم بدأت مرحلة نوعية أخرى في التعاون عنوانها، جذب الأموال الخليجية إلى الأسواق الصينية

وصل حجم التبادل التجاري بين الصين ودول الخليج إلى نحو 100 مليار دولار. وتحتضن دبي وحدها اليوم نحو خمسة آلاف شركة صينية لترويج البضائع الصينية. ووقعت ​شركات المقاولات الصينية​ عقودا بمليارات الدولارات مع دول الخليج.

تفصل الصين بين خياراتها السياسية وبين التجارة والأعمال، وقد فعلت دول الخليج الأمر عينه، فلم تجد أي مشكلة في التعامل مع دولة لا يزال حتى اليوم يحكمها ​الحزب الشيوعي​ سياسيا وعقائديا، لسبب وحيد وهو أن اقتصادها حر.

الصين ولبنان

يقول ​الخبير الاقتصادي​ البارز مروان ​اسكندر​، إنّ ​الاقتصاد اللبناني​ لن يسترجع عافيته إلاّ من خلال "طلب العون من الصين" التي تملك 1600 ملياراً من احتياطي العملات الأجنبية، "فإذا دفعت الصين 10 أو 15 مليار في لبنان لن تهتزّ"، خصوصاً بعد أزمة "كورونا". الصينيون "لا يخافون تسلّط أهل الحكم وفسادهم"، لأنهم "يستلمون تنفيذ المشاريع بأنفسهم ولا يلزّمونها لأحد من السماسرة".

ويعود اسكندر لهذا الغرض، إلى مشروع "طريق الحرير" العملاق الذي بات يُعرف حديثاً باسم "الحزام والطريق" وأطلقه ​الرئيس الصيني شي جين بينغ​ عام 2013 بمشاركة نحو 123 دولة من أجل تسريع وصول المنتجات إلى أسواق ​آسيا​ و​أوروبا​ و​أفريقيا​ وأميركا الجنوبية والوسطى".

وكنا قد ذكرنا أن الرئيس الحريري قد رعى قبل عامين مؤتمر طريق الحرير "حزام واحد وطريق واحد في لبنان"، الذي نظمته مجموعة "​فرنسبنك​" و"​غرفة التجارة الدولية​ لطريق الحرير"، في مبنى ​عدنان القصار​ للاقتصاد العربي، وأكد يومها أن العلاقات بين لبنان والصين قديمة وقد تطورت مع نمو النقل والاتصالات، ولبنان شكل دائما نقطة تلاق بين الغرب والشرق.

وكانت غرفة "طريق الحرير" قد اختارت لبنان لإطلاق الحملة الترويجية لمشروعها الخاص بالعالم العربي. وأكد عدنان القصار حينها، أن "الغرفة تضع لبنان في سلم أولوياتها حيث سوف يستفيد لبنان من الخطط والمشاريع الموضوعة في إطار مشروع "طريق واحد.. حزام واحد" وخصوصا مشاريع البنية التحتية.

مشاريع للتنافس

لبنان مدرج بشكل أساسي على لائحة برامج الصين. ولدى الصينيين خططاً ومشاريعاً وبرامجاً أصبحت منجزة، حول جملة من المشاريع في لبنان. وهي فقط تحتاج إلى تطبيق، وتلبي شروط التجديد والتحديث في لبنان. عنوان هذه الخطط هو "صورة لبنان المستقبلية". كلّفت هذه الخطط والدراسات ملايين الدولارات. تطال كل لبنان، من البنى التحتية والأنفاق، إلى المرفأ والمطار، كما منطقة اقتصادية في البقاع، ومشاريع تتعلق بالكهرباء و​النفايات​ ومشروع للمترو من بيروت إلى الشمال بـ 200 مليون دولار، من دون أن يدفع لبنان أي مقابل" BOT".

بالنسبة للصين الأمر واضح وحساباتها اقتصادية وعملانية، بعيدة عن السياسة، أو التورط في محاور سياسية متصارعة. ويبقى أن يعرف لبنان كيف ينسج على المنوال نفسه، فينال من المارد الصيني ما يحتاجه من استثمارات من دون أي التزامات سياسية. والطريقة الفضلى التي ي​علم​نا إياها علم الاقتصاد هي المنافسة، فإذا أردنا إنجاز أي مشروع تنموي نعرضه على التنافس الحر، ولتربح الشركة صاحبة العرض الأفضل، ولو كانت صينية.. ولو غضب الخاسرون.