بالمبدأ ، انطلقت فكرة الصندوق للضمان الاجتماعي من كونه صمام الآمان للمواطنين ، وهو حاجة حقيقية لابناء المجتمع على الدولة تأمينها له كحد ادنى من حقوقه .

وعلى المراحل المتلاحقة ، تبيّن أن الضمان الاجتماعى لابد أن تلازمه جملة من الشروط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والسياسية ، لكي ينجح فى مكافحة الظواهر الاجتماعية السالبة كالفقر و​البطالة​..، ومنها الديموقراطية وما يصاحبها من شفافية، وتطهير القطاع العام من بيروقراطية وفساد ، والتمييز بين الملكية الفردية ، بما هي حق تصرف الفرد بالمال المقّيد بمصلحة المجتمع، والتي يجب الإقرار بها ، و الملكية الخاصة ، والتي مضمونها حق التصرف المطلق في المال، دون اعتبار لمصلحة المجتمع،والتي يجب رفضها.

والثابت ايضا ان ​صندوق الضمان الاجتماعي​ هو بمثابة العمود الفقري للإستقرار السياسي والإجتماعي والإقتصادي، سيما ان رجال السياسة في الدول المتطوّرة يضعون في مقدّم خطابهم السياسي مسألة العدالة الإجتماعية، كونها أساساً من أسس الأمن القومي والانصهار الاجتماعي والوطني. وفي لبنان ، بات ملف الضمان يمثّل قضية ضمير وطني، لكنها قضية مهملة من قبل المسؤولين السياسيين .

اما اليوم ، ومع الثورة التي انفجرت بفعل تراكم بارود الحرمان من التقديمات الاجتماعية والصحية ، وكبريت الذل و​الفساد​ المستشري في الادارات ، وتفشي البطالة والصرف من العمل كيف شهد مرفق الضمان الاجتماعي على المرحلة المعيشية الصعبة التي سبقت 17 تشرين الاول من خلال فروعه وخصوصا فرع تعويض ​نهاية الخدمة​ ؟

ابو نــاصيف

المدير المالي رئيس الديوان شــوقي ابو نــاصيف يقول "للاقتصاد": توالت الأزمات الاقتصادية منذ اكثر من 4 سنوات بشكل ملحوظ مما دفع عدد من المضمونين إلى طلب سحب تعويضاتهم من الصندوق ان كان بسبب البطالة نتيجة ترك العمل أو بسبب بلوغ السن ، أو بلوغ عشرين سنة خدمة ، بالمقارنة مع العام 2014 نجد ارتفاع ملحوظ بعدد طلبات تصفية تعويض نهاية الخدمة التي ارتفعت من حوالي 20,700 طلب عام 2014 الى 26,600 طلب عام 2018 لاسيما بالنسبة للحالات التالية:

سحب التعويض بسبب ترك العمل المأجور: ارتفع العدد من 12,800 طلب سنويا في العام 2014 إلى حوالي 15,300 طلب عام 2019 .

سحب التعويض بسبب إكمال ٢٠ سنة عمل : ارتفع العدد من 2400 طلب عام 2015 إلى حوالي 4200 طلب عام 2019.

سحب التعويض بسبب بلوغ السن : (60-64) ارتفع العدد من 4,105 طلب عام 2014 إلى 5770 طلب عام 2018.

وارتفعت قيمة تعويضات نهاية الخدمة المدفوعة من حوالي 409 مليار ليرة عام 2014 إلى 745 مليار عام 2018 .

ويعتبر ابو ناصيف ان هذا الازدياد في قيمة التعويضات المدفوعة ليس له أي تأثير سلبي على التوازن المالي لفرع نهاية الخدمة كون هذه المبالغ عبارة عن اشتراكات سددت من ​اصحاب العمل​ وسجلت في حساب المضمونين الشخصي في فرع نهاية الخدمة . وفي حال كانت المبالغ المسجلة في حساب الشخصي مضاف اليها الفوائد الناتجة عن استثمار هذه الأموال لا تكفي لتسديد قيمة التعويض يتم مطالبة صاحب العمل بتسديد الفرق، عن الفترة التي عمل خلالها المضمون لديه، وهو ما يعرف في الصندوق بمبلغ التسوية، وبالتالي، طريقة تمويل فرع نهاية الخدمة تبقيه بشكل دائم بحالة الملاءة.

خطر ديون الدولة

وعن مصير ​الديون​ المتوجبة على ​الدولة اللبنانية​ يقول ابو ناصيف :

الخطر الحقيقي هوعلى فرع المرض والامومة ، وذلك بسبب عدم تسديد الدولة لمستحقاتها المتوجبة للصندوق الناتجة عن مساهمتها في فرع المرض والامومة بنسبة 25% من التقديمات ومساهمتها باشتراكات السائقين العموميين والمخاتير والمضمونين المتقاعدين بالإضافة إلى الاشتراكات المتوجبة عليها بصفتها صاحب عمل للأجراء العاملين في الإدارات العامة من غير الموظفين، مع الإشارة إلى ان هذه المساهمات قد اقرت بموجب قوانين، وبالتالي، التخلف عن التسديد هو تخلف عن تطبيق القانون.

عدم تسديد المتوجبات ليس بالأمر الجديد فقد دأبت الدولة اللبنانية منذ سنوات طويلة على عدم تحويل الأموال المتوجبة للصندوق بشكل كامل . ففي السنوات الماضية ، كان يتم التحويل إنما بشكل جزئي وليس بالكامل وقد انقطع هذا التحويل نهائيا في السنوات الأخيرة مما ادى إلى تراكم هذه المبالغ التي يعود جزء منها إلى ما قبل العام 2006 ولغاية 2018 السنة الأخيرة التي قطع حسابها في الصندوق حوالي 3,236 مليار ليرة.

عدم تسديد هذه المتوجبات ، دفع إدارة الصندوق منذ سنوات طويلة على الاستدانة من فرع نهاية الخدمة لصالح فرع المرض والأمومة و لفرع التقديمات العائلية لقاء فوائد (مع الإشارة إلى ان فرع التقديمات العائلية بدأ يؤمن التوازن المالي مؤخرا وبعض من الوفر البسيط، يستعمل لتسديد الأموال التي استدينت من فرع نهاية الخدمة لصالحه).

ويلفت ابو ناصيف الى ان إدارة الصندوق لم تتوانى عن مطالبة الدولة بتسديد هذه المتوجبات ان كان من خلال سلطة الوصاية أي وزير العمل أو توجيه الكتب مباشرة إلى وزارة المالية، وقد أسفرت هذه المطالبات على صدور عدة قوانين تسمح للدولة بتقسيط متوجباتها المتراكمة لقاء فوائد ؛ ففي العام 2006 صدر القانون رقم 753 الذي أجاز تقسيط ديون الدولة على 10 سنوات لقاء فائدة 5%، وبالفعل تم تحديد قيمة المبالغ المتراكمة لغاية العام 2006 وتقسيطها على 10 اقساط قيمة كل قسط 80 مليار، كان يرصد هذا القسط سنويا في الموازنات العامة أو مشاريع هذه الموازنات بالإضافة إلى المساهمات الأخرى، إنما لم يتم تحويل هذه الاقساط إسوة بالمستحقات الأخرى إلى الصندوق .

ويقول : تحت إلحاح إدارة الصندوق المتواصل ورفع الصوت على الخطر الجدي لعدم تحويل هذه المتوجبات تمكنا من الحصول على التزام من قبل الدولة ترجم في قانون ​الموازنة العامة​ للعام 2019 تحديدا في المادة 71 منه حيث ورد نص يجيز تقسيط كافة الديون المتوجبة على الدولة للصندوق لغاية العام 2018 على 10 اقساط متساوية على ان يسدد القسط الأول قبل نهاية شهر أيلول 2019 مع فائدة تعادل معدل الفوائد على ​سندات الخزينة​ لمدة سنة، مع وجوب تسديد المتوجبات المالية المرصودة في العام 2019 ، أصبحنا في شهر تشرين الثاني ولم يسدد القسط الأول كما كان متوقعاً كما لم تسدد المساهمة عن العام 2019 .

ماذا عن توسيع تقديمات الصندوق ؟

يلفت ابو ناصيف الى انه يطلب من الصندوق بشكل مستمر بتوسيع تقديماته لتشمل فئات جديدة وقد شكل هذا الطلب جزءا من مطالب ​الحراك الشعبي​ الأخير، فحاليا تستفيد الفئات غير المضمونة وغير المستفيدة من أي نظام عام آخر من تقديمات وزارة الصحة دون أي مقابل، هذه الفئات قسمين، قسم يعمل وينتج ولديه مدخول وباستطاعته تسديد الاشتراكات للصندوق، وقسم آخر معدم وليس لديه أي مدخول .

استراتجية الصندوق في هذا المجال ورؤيته هو ادخال جميع الفئات المنتجة التي بامكانها تسديد اشتراكات إلى الصندوق تحديدا فرع المرض والأمومة، على ان تبقى الفئات المعدمة وغير المنتجة من مسؤولية الدولة عبر وزارة الصحة أو وزارة الشؤون الإجتماعية.

يعمل الصندوق بشكل تدريجي على ادخال هذه الفئات، فقد نجح سابقا بإدخال بعض الفئات كالسائقين العموميين و افراد الهيئة التعليمية في ​المدارس الخاصة​ والطلاب والأطباء المتعاقدين مع الصندوق والمخاتير. ومؤخرا ، اعتبارا من شباط 2017 خطا الصندوق خطوة مهمة جدا في هذا الإطار من خلال تامين التقديمات الصحية للمضمونين المتقاعدين بعد تركهم العمل، فالمضمون كان يفقد حقه بالاستفادة من تقديمات الصندوق بعد تركه العمل بسبب التقاعد وهو بأمس الحاجة إليها، جاء القانون رقم 27 لعام 2017 وسمح له بالاستمرار في الاستفادة من تقديمات فرع المرض والأمومة مع شريكه واولاده (لغاية 18 سنة او 25 سنة) على ان ينتقل هذا الحق لشريكه واولاده (دون 18 سنة ) بعد وفاته.

تقدمت الإدارة أيضا بعدة مشاريع مراسيم لإفادة الفئات الأخرى، مثل صيادي الأسماك ومزارعي ​التبغ​ والعمال الموسميين وغيرهم، غير انه بسبب ​الوضع المالي​ الدقيق لفرع المرض والأمومة الناتج عن عدم تسديد الدولة لمتوجباتها ،لذلك من الافضل خلال هذه المرحلة ادخال فئات تستطيع تامين التوازن المالي وتحديدا تلك التي باستطاعتها تسديد اشتراكات مرتفعة نسبيا كأصحاب العمل وبعض أصحاب المهن الحرة كالمعالجين الفزيائيين و​خبراء المحاسبة​ وغيرهم وذلك رغم أحقية وأولوية الفئات الأخرى ذات الدخل المحدود كالمزارعين وصيادي الأسماك، إنما الوضع المالي لفرع المرض والأمومة يدفع بهذا الاتجاه بهدف المحافظة قدر الامكان على التوازن المالي والملاءة للفرع على ان تدخل الفئات الاخرى لاحقا، فصناديق الضمان الاجتماعي هي بالأساس صناديق تعاضد بين أفراد المجتمع الواحد .

نظام التقاعد

ويضيف ابو ناصيف :على صعيد التقديمات أيضا، يبقى الانتقال من نظام نهاية الخدمة إلى نظام التقاعد المشروع الأهم الذي تسعى إدارة الصندوق إلى تطبيقه، وحاليا اصبح هذا المشروع في مراحله الأخيرة بعدما اجرت ​منظمة العمل الدولية​ تقييم إكتواري وقانوني للمشروع بهدف إعطاء ضمانات إضافية للمضمونين . ففي مشروع القانون الحالي يتحمل المضمون مخاطر هذا النظام بالكامل، تسعى ادارة الصندوق الى ادخال بعض التعديلات عليه لاسيما لجهة المحافظة على القيمة الشرائية للمعاش بعد التقاعد وإعادة تصحيحه كلما دعت الحاجة بالإضافة إلى تامين ضمانة أخرى تتعلق بالحد الأدنى للمعاش التقاعدي لكي يصبح مشروع هذا القانون القائم على الرسملة اكثر توافقا مع مفهوم التضامن وعدالة الإجتماعية .

ماذا عن العلاقة بين توظيف أموال الصندوق ودور ​البنك الدولي​ ؟

يوضح ابو ناصيف :لا علاقة للبنك الدولي بتوظيف أموال الصندوق لا من ​قريب​ ولا من بعيد، فتوظيف الأموال يتم وفقا لاقتراح لجنة مالية خاصة بالصندوق برئاسة مدير عام المالية وعضوية مدير عام الضمان الاجتماعي وممثلين عن مجلس الإدارة وممثل عن ​جمعية المصارف​ و آخر عن مجلس الإنماء والإعمار تعين لمدة اربع سنوات بمرسوم يصدر عن ​مجلس الوزراء​ بناء على اقتراح وزير العمل وانهاء مجلس إدارة الصندوق، اللجنة المذكورة قد انتهت مدتها في العام 2012 دون تعيين لجنة جديدة لغاية تاريخه،غير انه قبل انتهاء ولايتها وضعت نظام خاص لتوظيف أموال الصندوق واقره مجلس الإدارة يقضي هذا النظام بتوظيف لغاية 50% من أموال الصندوق في حسابات مجمدة لدى المصارف الخاصة لمدة اقصاها سنة بعد اجراء مزايدة شهرية للفوائد ، وبالتالي، توّظف الأموال وفقا لأعلى معدل فائدة يحصل عليها الصندوق، والجزء الآخر من الأموال يوظف في سندات خزينة لمدة اقصاها ثلاث سنوات شرط ان لا يقل مجموع الأموال الموظفة في سندات خزينة عن 50% من توظيفات الصندوق.

وبالنسبة للعوائق التي يواجهها الصندوق يرى انه بالإضافة إلى العائق المالي هنالك عائق إداري وهو النقص بعدد المستخدمين المتزايد، ولاسيما بعد ربط الصندوق بمجلس ​الخدمة المدنية​ بموجب قانون الموازنة في العام 2004 ، وفي ظل قرار الحكومة بعدم ​التوظيف​، فإدخال شرائح جديدة بحاجة ألى موارد بشرية لكي نستطيع تامين الخدمات المطلوبة بشكل لائق، فالعدد الحالي غير كاف لتامين الخدمات للمضمونين الحاليين فكيف اذا تم ادخال شرائح جديدة ؟

ورغم ذلك، تعمل الإدارة حالياً على اعداد هيكلية جديدة للصندوق واعتماد الوصف الوظيفي لجميع العاملين فيه، وإنشاء نظام موارد بشرية قائم على الكفاءة وبناء القدرات المستمر من خلال مشروع تعزيز قدرات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي المموّل بهبة من ​الاتحاد الأوروبي​ والمنفذ من قبل مكتب وزير التنمية الإدارية وبمساعدة خبراء اوروبيين ولبنانيين .

كما تعمل الادارة بشكل متوازي على تطوير اعمال المكننة باتجاه ​الربط الالكتروني​ مع الصيدليات والمستشفيات مما يسهل عمليات الصندوق التنفيذية ويسرع تصفية المعاملات للمضمونين ودفعها.

ووفق ابو ناصيف تتلخص استراتيجية الصندوق في المرحلة المقبلة ، بالآتي :

توسيع مروحة الخاضعين للضمان بشكل تدريجي لتشمل كافة اللبنانيين العاملين والمنتجين.

الانتقال من نظام نهاية الخدمة الى نظام التقاعد.

تطوير البنية التحتية للصندوق من خلال اعادة النظر بالمخطط التوجيهي للمكننة وتطويره باتجاه المكننة الكاملة والشاملة بحيث تصل المعاملات من الأطباء والصيادلة والمستشفيات الكترونيا وتصفى وتحوّل الى حسابات المضمونين مباشرة دون حضور المضمون الى مكاتب الصندوق.

تبسيط معاملات اصحاب العمل بحيث يصبح تسديد الاشتراكات وانجاز المعاملات الكترونيا عبر البوابة الالكترونية الخاصة بالصندوق .

اعادة النظر بالهيكلية الادارية للصندوق ووضع نظام موارد بشرية قائم على الكفاءة والتدريب المستمر.

انشاء قسم اكتواري حديث ومتطور يعمل على إعداد الدراسات وتفحص النظام بشكل دوري واقتراح الاجراءات التي تحافظ على التوازن المالي .

اخيرا ، لا بد من القول" ان العين بصيرة واليد قصيرة " لأن المطلوب هو الكثير بينما القيود هي متعددة. ومن يستمع الى المسؤولين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يلمس الحسرة من عدم التمكن من الانطلاق بهذا المرفق الى الامام وجعله بمستوى صناديق الضمان في الدول المتقدمة الملتزمة بحقوق الانسان .

ولم يعد يخفى على احد ان السياسة الفاسدة لم تبقى بمنأى عن الضمان الاجتماعي لابل نهشته مفهوما وحرمته اموالا.