لم تنتظر النقابات المسؤولة عن تأمين الدواء و​المحروقات​ و​الخبز​ بلورة آلية تنفيذ تعميم ​مصرف لبنان​ الصادر مطلع تشرين الاول والذي سمح بموجبه للمصارف بفتح اعتمادات لاستيراد المشتقات النفطية أو القمح أو ​الأدوية​، بل لجأت مداورة اللجوء الى الضغط بحجب هذه المواد التي تعتبر اساسية في حياة المواطن.

واذ تم الالتفاف على الاضرابات بوعود من كل من رئيس الحكومة وحام مصرف لبنان ، يستمر الخوف من أن تشهد الايام المقبلة انتفاضة قطاعات أخرى تعاني من ظاهرة شح ​الدولار​ من السوق اللبناني.

والأخطر أن المشكلة ستطال الصحة وما من احد يستطيع تكهّن النتائج الخطيرة.

وفي بيان لافت خلال الـ48 ساعة الماضية، دعا تجمّع مستوردي الأجهزة والمستلزمات الطبية "المسؤولين الى اتخاذ اجراءات عاجلة، اذ انّ البضائع المتوافرة حالياً في مستودعاتها لا تكفي احتياجات شهر او اثنين على الاكثر، بالاضافة الى الاضرار المعنوية المادية والقانونية التي سوف تلحق بالقطاع جراء التخلّف عن دفع المستحقات، ناهيك عن اي ضرر قد يصيب اي مريض".

ومن المعلوم أن جميع هذه المستوردات تتم اما بالدولار واما باليورو.

وبعيدا عن أي مغالاة، الدولار يتحكم بسوق الاستيراد اللبناني الى جانب الاورو. وعلى مدى الايام المقبلة من المرتقب ان تتجدد الازمات بسبب عدم توافر الكميات المطلوبة منه.

وفق المعطيات ان قيمة هذه المستوردات الاساسية تفوق الـ5 ملايين دولار سنويا علما ان فاتورة الاستيراد الاجمالي في لبنان تناهز الـ17 مليار دولار او اكثر بالتأكيد.

ما حصل في السوق في الآونة الاخيرة لم يكن طبيعيا.

تزيد حاجة الدوّلة اللبنانية إلى التموّل بالدولار الأميركي بنسبة كبيرة في كل عام، وستفوق الخمسة مليارات دولار في العام 2019 وفق التقارير. وهي مرتبطة بالإنفاق المتمادي على فيول ​كهرباء لبنان​، بتنامي خدمة ​الدين العام​ بالدولار الأميركي، وباستيراد المحروقات والسلع الى غيرها من النفقات...

"القلة بتوّلد النقار" صحيح. ولكن تجاهل المسؤولين للامور الحياتية وانصرافهم للتهجم وتقاذف المسؤوليات عار بحد ذاته.

موازنة على نار حامية

ينصب اهتمامهم اليوم على اقرار موازنة جديدة للعام 2020ملغومة بضرائب خطيرة مع التغاضي عن اقرار اي اصلاحات لأن الهم الأساسي هو تقديمها ضمن المهل الدستورية.

الالتزام بالمهلة الدستورية للاحالة الى ​مجلس النواب​ هو الهدف وهذا ما ينتظره مؤتمر "سيدر" من ​الحكومة اللبنانية​. يعتقد هؤلاء ايضاً بأن الاقرار العاجل للموازنة تشدد عليه وكالات التصنيف الدولية، ما يوجب مقاربة موازنة 2020 على انها استحقاق في ذاته، يكتفي بأرقام النفقات والواردات دون ان يترك مجالا لتطبيق الاصلاحات التي يصر عليها عراب "سيد ر" الرئيس الفرنسي ​ايمانويل ماكرون​.

تشمل الورقة الاصلاحية التي مقترحات اجراءات اولية لمواجهة الأزمة ، أعدتها مجموعة خبراء وسميت بورقة بعبدا . وهي تمثل خطوطا عريضة متكاملة ومتزامنة لبرنامج عمل أولي يمتد على ثلاث سنوات (2020 - 2022)، ويتضمن إجراءات تطبيقية اهمها في السياسة المالية:

- البت بحسابات الدولة النهائية ضمن المهلة المحددة في القانون، مع الإصرار على ​ديوان المحاسبة​، لإنجاز قطوع الحسابات غير المنجزة.

- إعداد مشروع موازنة عام 2020 و إقرارها ضمن المهل الدستورية والقانونية، على أن تكون موازنة شاملة تتضمن إطارا ماليا واقتصاديا متوسط الأمد، إضافة الى كل نفقات الدولة وإيراداتها، بما فيها كل إنفاق من خارجها.

- تخفيض العجز المالي المحقق الى نسبة 6.5%، من إجمالي ​الناتج المحلي​، كحد أقصى عام 2020، على أن يستكمل خلال الأعوام اللاحقة لخفضه تدريجيا، حتى يصل إلى نسبة 4%، على الأكثر بحلول العام 2022.

ويكون ذلك من خلال ​خفض الإنفاق​ الجاري، لا سيما العجز الناتج عن ​الكهرباء​، والمساهمات والمساعدات خارج ​القطاع العام​، والمواد والخدمات الاستهلاكية في ​الموازنة​ وخدمة الدين العام، ويتحقق أيضا عبر زيادة ​الايرادات​ من خلال تحسين الجباية ومكافحة التهرب الضرببي، وخصوصا من المكتومين، ومكافحة التهريب الجمركي والإثراء غير المشروع، وإصلاح ​النظام الضريبي​، وتحصيل المتأخرات المتراكمة على المكلفين.

- اعتماد سياسة الموازنة المتوازنة بين الايرادات العامة العادية والنفقات العامة، باستثناء النفقات الاستثمارية، وذلك بصورة تدريجية وصولا الى التوازن التام في العام 2022.

- الالتزام بسقف لتحويلات الخزينة لمؤسسة كهرباء لبنان، لا يتجاوز 1500 مليار ليرة لبنانية، في العام 2020، كما التأكيد على ننفيذ وزارة الطاقة والمياه لخطتها، مع التشدد في تحصيل المتأخرات خلال مدة ستة أشهر ومن خلال خفض الهدر التقني والفني وزيادة الطاقة الإنتاجية.

- إجراء مناقصات عمومية عالمية لشراء المحروقات لمؤسسة كهرباء لبنان، ضمن دفتر شروط متكامل، يعتمد أعلى معايير الشفافية.

- رفع حصة ​المشاريع الاستثمارية​ الممولة، من خلال قروض خارجية ميّسرة بعد دراسة جدواها المالية، أو بالاشتراك مع ​القطاع الخاص​، وذلك من مجمل النفقات الاستثمارية العامة.

- تجميد زيادة الرواتب و​الأجور​، لمدة 3 سنوات، مع الإحتفاظ بحقوق الموظفين في القطاع العام وبدرجاتهم، التي يستوفونها لاحقا.

- تشكيل لجنة لإصلاح النظام التقاعدي ونهاية الخدمة في القطاع العام، خلال فترة سنة.

- زيادة الحسومات التقاعدية من 6% الى 7% للعاملين في القطاع العام.

- زيادة الرسوم على ​السجائر​ بمعدل 500 ليرة لبنانية، لعلبة السجائر من الإنتاج الوطني، و 1000 ليرة لبنانية، لعلبة الدخان المستورد.

- ملء الشواغر في ديوان المحاسبة، بدءا من رؤساء الغرف، وتفعيل دوره في الرقابة اللاحقة ضمن المهل القانونية.

- اعتماد ثلاثة معدلات للضريبة على القيمة المضافة "VAT"، كما يلي:

- صفر بالمئة على السلع المعفاة حاليا.

- 11% على السلع غير المعفاة والمعتبرة من غير الكماليات.

- 15% على السلع المعتبرة من الكماليات على أن تحدد هذه السلع الكمالية لاحقا، مع إمكانية زيادة النسبة بعد ثلاث سنوات.

- وضع حد أدنى وحد أقصى لأسعار ​البنزين​، بما يضمن حقوق الدولة وحماية ​المستهلك​.

- زيادة الضريبة على دخل الفوائد من 10% الى 11%، وجعلها دائمه.

- إعادة النظر بالنظام الضريبي عموما ليصبح أكثر كفاءة ومساواة، بدءا من إقرار الضريبة الموحدة التصاعدية على الدخل.

- فرض ضرائب أرباح مرتفعة على الامتيازات والأنشطة المضرة بالبيئة وعلى الاحتكارات، ومراجعة كل الإعفاءات الضريبية وإعادة ربطها بأهداف دعم الإنتاج والعمل والابتكار والمساواة وحماية البيئة والصحة العامة وغيرها.

- استكمال العمل على لجم ​التهرب الضريبي​ ومواصلة خطة مكافحة التهريب، وتوحيد قواعد المعلومات والبيانات، بين وزارة المالية و​الضمان الاجتماعي​، وامكانية الولوج المتبادلة بينهما.

- إعادة النظر بتخمين الأملاك العمومية البحرية ، واتخاذ الاجراءات القانونية لتحصيل أموالها، إضافة الى إخضاع هذه الأملاك للضريبة على الأملاك المبنية.

- القيام بإصلاح جذري وفوري للمؤسسات والمجالس والهيئات العامة، وتشديد الرقابة عليها، بما في ذلك عمليات التلزيم و​التوظيف​.

الالتزام بهذه التدابير يساعد عل زيادة فرص تحقيق إصلاح مالي ناجح وتوفير فرصة لتعزيز ​الوضع المالي​ وخفض أسعار الفائدة، مع تحفيز النمو الاقتصادي القابع تحت الصفر اليوم.

وثمة مجال لتخفيض النفقات غير الثابتة (أي خارج الأجور والرواتب وخدمة الدين و​التحويلات​ لمؤسسة كهرباء لبنان) بنسبة لا تقلّ عن 15% وفق الخبراء الاقتصاديين.

أما بالنسبة للضرائب، فمع تخييم واقع الاقتصاد الواهن أي شرط أساسي لأي زيادة ضريبية، يجب ربطه باجراءات جدية ، صارمة وسريعة لمكافحة ​الفساد​ كي يتم تقبّل اي ضرائب إضافية بشكل عام.

يقول وزير المال ​علي حسن خليل​ أنه "يجب ان تصل موازنة 2020 الى مجلس النواب قبل 15 تشرين الاول ما يعطي اشارات ايجابية الى الداخل والخارج".

لا أحد يعلم اين الايجابية في موازنة مثقلة بضرائب تمحو آثار النمو، وتقضي على ما تبقى من اقتصاد، تشرّد المزيد من العمال، تقفل المزيد من المؤسسات، تهّرب ​الاستثمارات​ الباقية بعيدا عن اي اصلاحات حقيقية !

بالتأكيد هناك شبه توافق بين بعض الفرقاء على كيفية تمرير موازنة 2020، وفي المقابل، ثمة مواقف انه لن تكون موازنة قبل الاصلاحات. وفي غضون ذلك، ما من أحد يعلم اذا كان المسؤولون يريدون فعليا اجراء اصلاحات، علما أن الدول المانحة تتمسك بها قبل صرف أي قرش تمويلي.

باختصار، المشهد القادم ومع اقرار موازنة تتضمن ضرائب، ستتخلله التوترات والاعتصامات ويخشى أن تبقى الاصلاحات مجرد شعارات.