قد يساهم المواطن بطريقة غير واعية في إدراج وطنه في أزمة إقتصادية ومالية فعلية بسبب إشاعة!

فهذه "الخبرية" البسيطة إذا تمكنت من الإنتشار بطريقة واسعة وسريعة تؤدي إلى تغيير في سلوكيات المستهلكين في السوق المحلي مما بطبيعة الحال يؤدي إلى زعزعة إتزان السوق. وقد رأينا هذا المشهد الحذر في الأيام الأخيرة التي سيطرت عليها حالة من القلق حول مصير الليرة ال​لبنان​ية وعلاقتها ب​الدولار​ الأميركي. ولا يخفى عن أحد إستغلال محلات الصيرفة لهذا القلق وتأجيجه من خلال تلاعبهم بالأسعار على هواهم.. مما دفع المواطنين للهلع نحو الإستحواذ على العملة الخضراء بشكل شرس..

هل يدرك المواطن مدى تأثير سلوكه على الوضع الإقتصادي والمالي في بلده؟ كل منا مسؤول على سلوكياته وعلى حماية سوقه من الإشاعات أولاً ومن ظاهرة التهافت في الأسواق وتضخيم الأزمات..

قصّة وعبرة: قصة كفاح الدولار..

عندما كان الدولار "طفلاً"

بما أن الوضع الحالي يتعلق بالدولار يجدر بنا تسليط الضوء على قصة حقيقية ربما تُسهم في نشر الوعي عند المواطن ليتمكن من معرفة دوره الفعّال في خلق ودفن الأزمات.. هذه القصة بعنوان " قصة كفاح الدولار" .. هذه الورقة الخضراء التي باتت تحظى اليوم بترقب يوميّ من قبل سكان العالم لم تُخلق بنفس القوّة..

تم إعتماد الدولار أميركي كالعملة الرسمية للولايات المتحدة الأميركية بعد توقيع الدستور الأميركي في العام 1792 أي قبل تأسيس البنك الفيدرالي، الذي أتى تأسيسه نتيجة فشل ​الدولار الأميركي​ في الحصول على ثقة المواطنين بسبب "الإشاعات"!

وفي التفاصيل، تم اختيار الدولار ليصبح الوحدة النقدية للولايات المتحدة الأميريكية في عام 1785. وقد ساعد قانون ​العملات​ المعدنية في العام 1792 في تشكيل نظام نقدي منظم أدخل العملات المعدنية في ​الذهب​ و​الفضة​ و​النحاس​.

ولكن رحلة الدولار من القرن الثامن عشر حتى يومنا هذا كانت مليئة بالأحداث بطلها يُلقب بـ"​الإحتياطي الفيدرالي​" وهو جهاز حكومي فيدرالي، يقوم بنفس مهام ​البنوك المركزية العالمية​ ولكن بنظام أكثر تعقيداً. أتى تأسيس الفيدرالي في العام 1913 نتيجة عوامل عدة أبرزها: إضطراب وضع البلاد الإقتصادي والمالي في ظل وجود الحرب الأهلية التي كبدت ​أميركا​ خسائر لا يمكن التغاضي عنها، دخول البلاد في حلقات متكررة من الكساد الإقتصادي، وعدم ثقة المواطن الأميركي بعملته. كل هذه العوامل أدت إلى ضرورة وجود جهة تدُير العملة في البلاد.علينا ألا ننسى أن فكرة تأسيس بنك مركزي في ذلك الزمن كانت فكرة جديدة أول من أتبعها كانت هولندا في العام 1609، تبعتها بريطانيا في العام 1694. أميركا حينها كانت بأمسّ الحاجة لجهاز حكومي يضبط ​الوضع المالي​ والإقتصادي في البلاد، وبدأت المحاولات من العام 1971 مع أول من ساهم في تأسيس ​البنك المركزي الأميركي​ أليكساندر هاملتون الذي كان المنظر الرئيسي للسياسات الاقتصادية لإدارة جورج واشنطن بوصفه أول وزير للخزينة، و قد تولى زمام المبادرة في تمويل ​ديون​ الولايات من قبل الحكومة الاتحادية، إلا أن تجربة هاملتون للأسف لم تنجح. من بعدها قامت أميركيا بمحاولة آخرى في العام 1816، ولكنها بدورها لم تنجح.

وهنا يكمنُ السؤال، لماذا لم تتمكن هذه البنوك المركزية من الصمود؟ لماذا لم تتمكن من خلق حالة من الإستقرار الإقتصادي في ​الولايات المتحدة الأميركية​؟ السبب هو أن المواطن الأميركي كان مدركاً أنه في حال أعلن المصرف إفلاسه لن يتمكن من إسترجاع أمواله، لذا صاحب هذا التوتر حالة من الإشاعات عن إحتمالية إفلاس البنوك مما دفع جميع المواطنين المودعين لسحب أموالهم فور سماعهم لأي إشاعة. وبطبيعة الحال عادة لا تبقى كل الاموال في المصرف، فالبنك يقوم بالإستثمار وإعطاء ​قروض​ ليربح منها بنظام الفائدة، وبالتالي عندما يقرر جميع المودعين سحب أموالهم من مصرف معين بشكل مفاجئ لن يتمكن المصرف من توفيرها بشكل كامل.. وهذا كان يؤدي إلى إفلاس العديد من البنوك وإن كان وضعها المالي جيد.

وهذا الموضوع تككر على مدى السنوات التالية: 1857، 1873، 1884، 1890، 1893، 1896، فكل عام من هذا الاعوام المذكورة قرر المواطنون بدافع الخوف من إفلاس البنوك أن يسحبوا أموالهم وبسبب هذا التصرف فعلاً تسبب المواطنون في إفلاس البنوك في بلدهم.. وحوّلوا الإشاعات إلى واقع.

بقي الحال على ما هو عليه، إلا أن حصل في العام 1907 ما يسمى بـ"الذعر المصرفي الأميركي" هي أزمة مالية اندلعت في الولايات المتحدة الأميركية حينما انهارت سوق البورصة بصورة مفاجئة فاقدة ما يقرب من 50% من الحد الأقصى للقيمة المالية التي حققتها في العام السابق. وقد حدث هذا الذعر في فترة ساد فيها الكساد إثر عمليات سحب للأموال المودعة في البنوك التي تقدم خدمات مصرفية عامة للأفراد وبنوك الاستثمار. وقد عم هذا الذعر أرجاء البلاد عام 1907 وطال أرجاء البلاد كافة، الأمر الذي أفضى إلى إفلاس العديد من البنوك والشركات إذ أعلن إفلاس أكثر من 10 بنوك في الساحل الأميركي في الوقت نفسه . وتعزى الأسباب الرئيسة في هذه الأزمة إلى ما شهدته بنوك نيويورك من سحب للسيولة وفقدان الثقة لدى المودعين وعدم وجود صناديق ضمان للودائع. أدت هذه الحالة إلى توتر ​المصارف​ التي بدورها طالبت بإنشاء مصرف مركزي وبالفعل قام ​الكونغرس الأميركي​ بإصدار مشروع قانون لإنشاء البنك المركزي، وبعد 5 أعوام تم الإتفاق على شكل هذا البنك الذي سيشكل الهيئة الحكومية للبلاد وهو الإحتياطي الفيدرالي الحالي.

قبل لوم سلوكيات المواطن أين هو جسر الثقة؟

فإذاً وإستناداً إلى هذه الواقعة لا يمكننا أن ننكر أن ​الشائعات​ ممكن أن تكون عنصراً مدمراً للاقتصاد وذلك لأن الجوانب والملفات الاقتصادية شديدة الحساسية وتهم جميع المواطنين.

وفي هذا الإطار كان لـ"الإقتصاد" حديث خاص مع المصرفي السابق والمؤسس الحالي لشركتيّ "AH Financial Consultancy" و "Forex Space"، الحاصل على شهادة الماجستير في ​الأسواق المالية​ والمصرفية من الجامعة اليسوعية عبدالله حرفوش، الذي وصف تصرّف ​التجار​ والمواطنين في موضوع تغيير سعر صرف ​الليرة اللبنانية​ والدولار الأميركي بطريقة غير رسمية بالـ" Mimetic Effect" وهي ظاهرة يقوم خلالها المستهلكين بتقليد تصرفات بعضهم البعض من حيث سلوكيات ​الإنفاق​ أم الإدخار. وأضاف:"إن السوق اللبناني قائم على معدلات دولار وليرة محددة وبالتالي أي عامل يؤثر على زعزعة هذه العلاقة سيساهم بطبيعة الحال في زعزعة السوق، وهذا ما حال فور تهافت عدد كبير من المواطنين لشراء الدولار مما أدى إلى إنخفاض في عرض الدولار عن المعدل العادي وأدى إلى إضعاف الليرة اللبنانية. مؤكداً:" لم يكن هناك نقص في الدولار كما تم ​الترويج​ له بالإشاعات ولكن هذا التصرف أدى إلى زيادة قيمة الدولار مقابل إضعاف الليرة اللبنانية، وهذا الأمر يحصل دائماً في لبنان، فنحن نساهم في تحويل الشائعات إلى حقيقة من خلال سلوكياتنا."

مضيفاً:" لا يمكننا إلقاء اللوم على المواطن اللبناني الذي فقد ثقته بدولته إستناداً إلى وعود أساسية لم تتم ترجمتها بشكل حرفي على أرض الواقع، فالمواطن غير قادر على التمييز بين الحقائق والإشاعات لغياب نظام شفاف في ​الدولة اللبنانية​ يُشكل جسراً بين الطرفين، وإن لم ننجح في بناء "جسر الثقة" هذا فعلينا أن نتوقع أن نقع في إشاعات مماثلة يتم تحويلها إلى كوراث إقتصادية فعليّة، وإن تم إصدار العشرات من التعاميم المطمئنة."

في الختام، يجدر بنا التذكير بأن "الإشاعة" هي تضخيم للأخبار الصغيرة الواقعية، وإظهارها بصورة تختلف عن صورتها الحقيقيةمن خلال التهويل والتعظيم . أمّا "الشائعة" فهي أقوال أو أخبار أو أحاديث يختلقها البعض لأغراض خبيثة ، ويتناقلها الناس بحسن نية، دون التثبت في صحتها، ودون التحقق من صدقها. قد يكون من المستحيل تتبع مدبري الإشاعات في لبنان وغاياتهم منها ولكن كل فرد منا مسؤول أمام نفسه ووطنه ليتعلّم أكثر ويتقصى عن كل "خبرية" قبل أن يتبناه بشكل غير مدروس، كما أنه كل منّا مسؤول على تصرفاته الإقتصادية.. فهذه الجهود الفرديّة إذا إجتمعت قد تسبب بأزمات أم نهضات إقتصادية... الخيارُ لنا!

المصادر:

مصدر 1

مصدر 2