تؤثر المشاعر والعواطف على أغلب المشاركين في سوق الأسهم وإن كان ذلك بدرجات مختلفة، وهذا ربما هو السبب في أن أعداد كبيرة منهم تتحمس (بشكل غير منطقي) لأي شيء جديد، وخاصة إذا كان يتم التسويق له باعتباره "فرصة العمر" التي لا يجب أن يفوتها أحد. وهذا ينطبق على ​الاكتتاب​ات العامة الأولية.

وللأسف، نجد أن الكثير من الهواة والمحترفين على حد سواء يفقدون منطقهم ويطاردون بشكل أعمى أي ​اكتتاب عام​ أولي مهما كان، لمجرد رغبتهم في امتلاك الجديد، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع ​أسعار الأسهم​ المكتتب عليها لتتجاوز قيمتها العادلة بكثير.

ما لا تنظر إليه ولا تراه

أولاً وقبل أي شيء، هناك حقيقة هامة نحتاج جميعاً إلى إدراكها وهي أن هناك عدم تكافؤ في المعلومات بين ​المستثمر​ين الأفراد وبين بائعي هذه الأسهم (البنوك الاستثمارية) لصالح الأخير. فالشركة المطروحة للاكتتاب هي في الأصل شركة خاصة لا يعلم الجمهور بشكل عام الكثير عن أدائها المالي والتشغيلي، وبالتالي لا يمكنه الحكم عليها إلا من خلال ما تقدمه من معلومات في نشرة الاكتتاب.

النقطة الثانية والتي توضح بشكل أكبر التفوق المعلوماتي لجانب على آخر هي التوقيت، أي شركة لن تقوم بطرح أسهمها للاكتتاب العام إلا في التوقيت الذي تعتقد أنه سيكون باستطاعتها فيه الحصول على أفضل سعر للسهم. وكجزء من ذلك السعي تحرص الكثير من الشركات على أن تبدو بياناتها المالية في أفضل صورة في العام أو العامين السابقين على موعد الاكتتاب.

وهذا يفسر سبب أن معظم الاكتتابات العامة الأولية لا تظهر إلا والسوق يأخذ اتجاها تصاعديا. ببساطة، الشركات ترغب في الاستفادة من التفاؤل المسيطر على المستثمرين في سعيها لجمع أكبر قدر من الأموال بأقل تكلفة ممكنة.

الفكرة المسيطرة على عقول كل من يندفع نحو المشاركة في الاكتتابات العامة الأولية، هي رغبته في ركوب القطار من المحطة الأولى أو اقتناص السهم عن أدنى سعر ممكن. ولكن ما لا تدركه الغالبية هو أنه ربما هناك الكثير من الأطراف التي تستثمر بالفعل في الشركة من قبل طرحها للاكتتاب العام.

أنت من قبل أن تسمع حتى باسم الشركة، ربما كانت هناك ثلاث أو أربع جولات تمويل جمعت فيها الشركة أموالاً من ​استثمارات​ خاصة بعيداً عن البورصة. وعادة ما يرتفع سعر سهم الشركة مع كل جولة. والأكثر من ذلك، هو أن ما سبق قد يكون هو الغرض الرئيسي من وراء طرح الشركة للاكتتاب العام.

ببساطة، قد ترغب الجهات المستثمرة في الشركة، مستثمرون كبار أو شركات أسهم خاصة أو شركات رأس المال المغامر، في التخارج من الشركة المطروحة للاكتتاب العام، ويبحثون عن من يحل محلهم. وهذا هو السبب في أن معظم الاكتتابات العامة غالباً ما تكون باهظة الثمن.

من المهم أيضاً أن تفهم من الذي يبيع لك، البنوك الاستثمارية أو متعهدو الاكتتابات هم في حقيقة الأمر مندوبو مبيعات مهمتهم ترويج وتغطية الاكتتابات والحصول على أفضل سعر. وبما أن الاكتتابات العامة الأولية لا تحدث إلا مرة واحدة لكل شركة، فغالباً ما يتم ​الترويج​ لها من قبل المصرفيين الاستثماريين باعتبارها "الفرصة التي تأتي مرة واحدة في العمر".

على أي أساس؟

1- افهم طبيعة عمل الشركة: 

إن ​الاكتتاب العام​ الأولي يشبه إلى حد كبير حفل الزفاف السريع. فليس لدى المستثمر سوى وقت محدود جداً للتعرف على الشركة المطروحة للاكتتاب، وهذا على خلاف ما يحدث قبل الاستثمار في الشركات المدرجة بالفعل في البورصة، حيث يمكن للمستثمر حينها أن يعقد خطوبة طويلة قبل أن يقرر الاستثمار بها.

الفكرة هي أن الاستثمار بالاكتتابات العامة يتطلب جهداً بحثياً كثيفاً في فترة زمنية قصيرة، وغالباً ما تكون المعلومات والبيانات المالية المتاحة محدودة جداً مقارنة مع تلك الخاصة بالشركة المدرجة بالبورصة. ولكن تبقى هناك معلومات وبيانات تنتظر من يحللها ويفهم دلالاتها.

2- تجنب عقلية القطيع:

لا تشارك في اكتتاب عام فقط لأن السوق متحمس له، بل كن موضوعياً واعلم جيداً أن الاكتتابات العامة المسلط عليها الضوء بشكل كبير غالباً ما ترتبط بمشكلتين رئيسيتين: الأولى هي أن تلك الأسهم تميل إلى كونها مبالغ في تقييمها، والثانية هي جذبها للكثير من الأموال السريعة التي ستقفز من السفينة مع ظهور أول مشكلة.

هذا لا يعني أنه يجب عليك تجنب الاكتتابات العامة المسلط عليها الضوء أو التي تحظى باهتمام أعداد كبيرة من المشاركين بالسوق، ولكن الفكرة هي أنك تحتاج لأن تفهم طبيعة ما تقدم عليه لكي لا تفاجئك تحركات السوق وتقوم حينها بالارتجال وهو ما قد يكبدك خسائر فادحة.

3- الإدارة ثم الإدارة ثم الإدارة:

عند تحليل شركة مدرجة بالبورصة غالباً ما يسهل تقييم أداء الفريق الإداري، ولكن حين نأتي إلى الشركات المطروحة حديثاً للاكتتاب العام، نجد أن الأمر ينقصه بعض الوضوح، ولذلك يجب عليك كمستثمر أن تقوم بالبحث عن إجابات لأسئلة من نوعية: منذ متى والفريق الإداري الحالي يرأس الشركة؟ ماذا حقق خلال ذلك الوقت؟ إذا كان هناك عضو مجلس إدارة تم استقدامه من مكان آخر، من هو؟ وما دوره؟ وماذا حقق هناك؟

أنت تحتاج أيضاً إلى تقييم الإدارة كفريق كامل، بمعنى هل يمتلكون القدرة على حشد خبراتهم ومهاراتهم بشكل يمكنهم من قيادة الشركة إلى آفاق جديدة؟ إذا كنت واحداً من هؤلاء الذين يقرأون بعناية نشرة الاكتتاب فستكتشف بالتأكيد أن الشركة كغيرها لديها ​نقاط ضعف​ رئيسية وتهديدات قد تكون ذات أهمية كبيرة، ويجب أن تتكون مقتنعاً بأن الإدارة تدرك هذه المخاطر ولديها استراتيجية مناسبة للتعامل معها.

هذه كلها أسئلة مهمة يجب عليك الإجابة عليها قبل أن تضع ثقتك في إدارة الشركة المطروحة للاكتتاب العام. وبالمناسبة إجابة هذه الأسئلة تصبح أكثر أهمية حين يتعلق الأمر بالشركات العائلية، والتي نرى أحياناً أن أهم مؤهلات رئيسها التنفيذي مثلاً هو صلة القرابة التي تربطه بصاحب الشركة.

المستثمر الذكي​ هو من يدرك جيداً أنه في حقيقة الأمر لا يستثمر في الشركة بقدر ما يستثمر في قدرة إدارتها على توجيهها وقيادتها من نجاح إلى آخر، وأفضل طريقة لتوقع الأداء المستقبلي لمجلس الإدارة هي من خلال النظر في تاريخ أعضائه.

4- افهم سبب الإدراج:

كيف تنوي الشركة التصرف في الأموال التي ستجمعها من المستثمرين في الاكتتاب العام؟ هل ستسخدمها في التوسع العضوي، أم أنها تحتاجها لسداد ديون، أم أنه لا توجد هناك خطة من الأساس؟ هل تخطط الشركة مثلاً لإجراء عملية استحواذ من شأنها أن ترسخ أقدامها في السوق؟ كمستثمر تحتاج إلى أن تفهم جيداً دوافع الشركة للإقدام على هذه الخطوة، لأن هذا له دلالات كبيرة.

هناك سؤال قد يتبادر إلى ذهن البعض وهو: إذا كانت الشركة ترغب في الحصول على النقد أليس بوسعها الاقتراض بدلاً من طرح أسهمها للاكتتاب العام؟ نعم بإمكانها، ولكنها في تلك الحالة ستكون ملزمة بدفع الفائدة على هذا الدين، وإذا كانت تواجه مشاكل في ​السيولة​ فقد لا تتمكن من سدادها. في الوقت نفسه هناك بعض الشركات التي لا تتمتع بالملاءة المالية الكافية التي تمكنها من الاقتراض، ولهذا السبب يصبح الاكتتاب العام هو خيارها الوحيد.

أخيراً، أحياناً يكون الدافع وراء دخول بعض الشركات إلى البورصة هو حاجتها الماسة إلى المال من أجل ​إنقاذ​ نفسها ولكي تتمكن من الاستمرار. وهذه بالمناسبة هي أكثر أنواع الاكتتابات العامة خطورة. ولكن كيف سيعرف المستتثمر سبب لجوء الشركة إلى البورصة إذا لم يتحقق من الأمر ويقرأ ما هو موجود بين السطور؟

هل من الأفضل الانتظار؟

في كثير من الأحيان، وخصوصاً في الاكتتابات العامة المسلط عليها الضوء أكثر من اللازم، قد يكون من  الأفضل للمستثمر ألا يشارك في الاكتتاب العام أو يشتري السهم في أيام التداول الأولى، ويقوم بدلاً من ذلك بالانتظار لبضعة أسابيع أو عدة شهور، حتى يهدأ السوق ويتحرر الجميع من الهوس المسيطر عليهم.

الفكرة باختصار، لا تندفع نحو أي اكتتاب عام أولي، وتقاتل من أجل المشاركة به معتقداً أنك ستشتري "غوغل" أو "آبل" أو "مايكروسوفت" في بداياتها، وتتخيل أنهم بعد سنوات سيشيرون إليك ويتحدثون حول كم أنك كنت بعيد النظر وثاقب الرؤية، لأن هناك احتمالا كبيرا أن يحدث العكس. دقق النظر في البيانات والحقائق الصلبة وحاول الاستنباط وقدر الأمور بنصابها ولا تسلم عقلك لأحد.

نصيحة أخيرة، والتي رغم السذاجة التي تبدو عليها إلا أنها مهمة جداً: إذا لم يضايقك الأمر، اقتطع من وقتك الثمين لكي تقرأ نشرة الاكتتاب مرة واثنتين، وانتبه إلى أصغر معلومة لأنها من الممكن أن تقودك إلى استنتاج مهم يؤثر على قرارك. وإذا لم تستطع فعل ذلك، فاحفظ أموالك واستثمر في الشركات المدرجة بالفعل، والتي تستطيع تقييم أدائها.

أخيراً، انتبه للكلمات التالية: لا تستثمر في اكتتاب عام أولي لمجرد أنه اكتتاب عام أولي، استثمر فيه فقط لأن لديك أسباباً معقولة تجعلك تعتقد أنه استثمار جيد.