لا يمكننا أن نحكم على الواقع البريطاني لأننا ببساطة لا نعيشه.. لم تلبث أن صدرت نتائج الإستفتاء البريطاني على الانفصال عن ​الاتحاد الاوروبي​، حتى اهتزّ العالم بأسره وصُعقت أسواقه.

إنخفضت قيمة الجنيه الإسترليني خلال ثوانٍ إلى أدنى مستوى لها في واحدٍ وثلاثين عامًا مسجلاً أكبر خسارة في تاريخه، بعدما صوت البريطانيون لصالح الخروج من الإتحاد الأوروبي.

كذلك خفضت وكالة التصنيف الائتماني "فيتش" التصنيف الائتماني للديون السيادية البريطانية من "AA+" إلى "AA" مع نظرة سلبية، وكانت وكالة "ستاندرد آند بورز" قد جردت المملكة المتحدة من تصنيفها الممتاز "AAA" وخفضته إلى "AA".

من جهة أخرى صرّح وزير المالية البريطاني جورج أوزبورنأن الضرائب سترتفع، وسيتم تخفيض الإنفاق بعد الخروج من الإتحاد الأوروبي.

وكان قد توقّع رجل الأعمال الشهير جورج سوروس من "عواقب وخيمة" ستطال الوظائف والإستثمار والأسعار في حال خروج ​بريطانيا​ من الاتحاد الأوروبي.

كذلك كشفت بيانات جمعتها "S&P's DowJones Indices" أن الأسواق العالمية سجلت خسائر بحوالي ثلاثة تريليونات دولار في يومين في إطار موجة هبوط قوية انتابت الأسواق حول العالم بعد الإستفتاء الذي أسفر عن خروج بريطانيا من الاتحاد.

ومن جهة أخرى قد يتأثر الإتحاد الأوروبي نفسه، فبحسب  رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي من المرجح أن يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد إلى انكماش الاقتصاد في منطقة اليورو بما يتراوح بين 0.3 و0.5 نقطة مئوية خلال السنوات الثلاث المقبلة.

كل هذه المعطيات تعني أن الإقتصاد العالمي دخل في دوّامة من الغموض...

لذا عزمت "الإقتصاد" على التوجّه مباشرة إلى "وكر" المعضلة لتحاور صحافية وباحثة بريطانية كانت قد كتبت مقالاً نُشر مؤخراً في صحيفة "The Independent" البريطانية بعنوان : "What has the European Union ever done for us" كايلي لويس.

تضمّن حوارنا مع لويس تساؤلات كثيرة يطرحها العالم.. فهل إيجابيات خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي -و أبرزها تخفيض الأعباء الإقتصادية على المملكة المتحدة بتحررها من المساهمة في ميزانية الإتحاد- ستغطي أعباء تكاليف حركة التجارة بين بريطانيا وأوروبا الجديدة بعد أن تميزت على مدى الأعوام المنصرمة بالمحفزات والإعفاءات الضريبية.

ترى لويس في هذا الموضوع أن انقسام رأى البريطانيين المتساوي تقريبا إتُخِذً من الناحية الاجتماعية وليس عبر الدراسات والتقارير "أعتقد أن البريطانيين الذين صوتوا للبقاء كانوا على دراية بالكوارث الاقتصادية التي قد تُصيب بريطانيا بعد خروجها من الإتحاد الأوروبي، على عكس الفريق الآخر الذي تأثّر بالخطابات المنمّقة عن أساطير المملكة وجبروتها.. إلا أنهم لم يأخذوا بالاعتبارالعواقب الإقتصادية على بريطانيا وعُملتها فور خروجها من الإتحاد، ولكن علينا ألاّ ننسى الإنقسام "المتساوي"  تقريبا بين الطرفين إذ سجلت نسبة الفريق الداعم للخروج 52% في مقابل 48% صوتوا للبقاء ضمن الإتحاد الأوروبي. ولكن العديد من البريطانيين يجهلون تأثير الإتحاد الأوروبي على حركة التجارة في بريطانيا وخارجها ، يعتقد الفريق الداعم للخروج أن البلاد ستكون أفضل اقتصاديا وماليا إذا تحررت من سلطة الإتحاد الأوروبي..ولكن يبقى هذا الأمر حلماً إن لم يقترن بسياسات فعلية."

ولكن المطالبة بالإنفصال عن الإتحاد الأوروبي لم تبصر النور "بين ليلة وضحاها" فلطالما طالب عدد كبير من الشعب والقيادت البريطانية بهذا الانشقاق .. ولكن هل يُعقل عدم اقتران خطوة مصيرية كهذه بإستراتيجيات بديلة أو سياسات على المدى القصير والمتوسط؟! وهل يسعى رجال الأعمال البريطانيون حالياً للجوء لأساليب بديلة تحميهم من عواقب رفع المحفزات على حركة التجارة بين الدول الأوروبية؟؟

أسِفت لويس لعدم توفر أي سياسات اقتصادية بديلة في الوقت الحاضر، واعتبرت أن خطوة كهذه لن تتحقق إلا عندما يناقش بلدها قراره النهائي مع الجهة الوحيدة المختصة وهي الإتحاد الأوروبي. وشددت: "لقد دخلت بريطانيا في خانة المجهول .. كونها أول دولة تقرر الخروج من الإتحاد الأوروبي، لذا فإنّالسياسين والمستثمرين اليوم في حالة من الترقب لأن الأمور ليست واضحة بعد." وأضافت : "من الواضح أن الأيام المقبلة على الأسواق البريطانية لن تكون مُبشّرة.."

* الاتحاد الأوروبي لم يُقدّر جهود بريطانيا

من جهة أخرى، قد تكون بريطانيا تحرم نفسها من فرصة ذهبية بتخلّيها عن عضويتها في الإتحاد الأوروبي الذي يدرس حالياً مع الولايات المتحدة الأميركية إنشاء أكبر منطقة تجارية حُرة في العالم.

تصف لنا لويس وجهة نظر بريطانيا في هذه المسألة كالتالي:" لقد نجحت الحملة الداعية لانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي في إقناع الشعب بسهولة القيام بأي مشاورات، إتفاقيات أو شراكات إقتصادية مع أي دولة أخرى، سواء كانت داخل أوروبا أو خارجها، ولكن موضوع الصفقة المشتركة بين الاتحاد الأوروبي وأميركا "TTIP" – " Transatlantic Trade and Investment Partnership" لم تجذب اهتمام بريطانيا كثيراً بل خلقت العديد من الشكوك والتحفّظات منذ بداية المشاورات، لذا لا أستغرب أبدا عدم تشكيل هذه الصفقة عاملاً أساسيا في الاستفتاء البريطاني، خاصة أن المملكة المتحدة تأتي في المرتبة الخامسة على مستوى الاقتصاد العالمي." وشددت "لا يمكن لاحد أن يستهين بهذه المرتبة.. فمن الطبيعي وإن خرجنا من الاتحاد الاوروبي أن نكوّن علاقات اقتصادية وتجارية متينة مع أي دولة في العالم."

وعن حركة التبادل التجاري بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، قالت "أعتقد أن الاتحاد الأوروبي لم يُقدّر جهود بريطانيا، وبإمكان المملكة أن تتعاون تجارياً مع أي دولة أوروبية مراعية معاييرها وشروطها المفروضة - بطبيعة الحال - من قبل الإتحاد. " ولفتت إلى أن السياسين الداعمين لحملة خروج بريطانيا من الإتحاد يناقشون إمكانية وضع قوانين خاصة للتعامل مع الاتحاد إلا أن الأخير أكد أن هذا الأمر لن يحصل.

وفي موضوع الاستثمارات، من المتعارف عليه أن الإستقرار يجذب الاستثمارات .. على عكس الوضع البريطاني اليوم، فهل هناك من يتدارك انعكاسات هذا الأمر على الأسواق؟؟

تعتبر الصحافية البريطانية أن على بلادها المباشرة بتنفيذ المادة 50 فوراً، والبدء بعملية مغادرة الاتحاد الأوروبي في أقرب وقت ممكن، معتبرة أن الوضع سيبقى غير مستقر إلى حين إيجاد الرئيس المناسب.. فالتأخير في هذه النقطة المحورية سيُؤذي بريطانيا. كما تضيف "سيعود الاستقرار إلى البلاد وبالتالي ستعود الإستثمارات بعد تعيين الشخص المناسب واستداراك الشركات لأمورها ووضع سياسات إقتصادية تعمل عليها على المدى الطويل."

لم يختلف رأي لويس كثيرا عن رأي رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر الذي اعتبر " نريد تطبيق المادة 50 ويجب الإسراع بذلك ولا مجال للتفاوض مع بريطانيا لأشهر!"

لويس:  ربما فقدان الوظائف في المدينة هو ثمن يستحق أن ندفعه من أجل سيادتنا وتحريرنا من الاتحاد الأوروبي

أشارت تقارير استند إليها الفريق الداعم لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي إلى أن بريطانيا قد تخسر ثلاثة ملايين وظيفة  في حال خروجها  من الاتحاد الأوروبي "بمفردها" . كذلك لفتت تقارير سابقة إلى أن عدد الوظائف المرتبطة بحركة التجارة مع الاتحاد الأوروبي في العام 2000 قدرت بثلاثة ملايين وظيفة. فهل هنالك أي تصورات مستقبلية لهذا الأمر وهل سيعتمد الفريق الرابح إستراتيجيات وقائية معينة غير منع / تخفيض نسبة تدفق اللاجئيين وإعادة سيطرة بريطانيا على حدودها؟

أكدت لويس أن العديد من الخبراء والمسؤولين قد نبّهوا الشعب البريطاني من هذه المشكلة قبيل فترة الاستفتاء. ومع ذلك،فإن العديد من المناطق التي صوتت للخروج يعانون من معدلات بطالة مرتفعة، وتابعت " ربما فقدان الوظائف في المدينة هو ثمن يستحق أن نجازف به وندفعه من أجل سيادتنا وتحريرنا من الاتحاد الأوروبي." ولكن إذا نظرنا إلى الأمور بمجهرها نرى أن لندن على سبيل المثال صوتت للبقاء في الإتحاد، على عكس منطقتي "كورن وول "و "وأليس" وهي مناطق صوتت للخروج من الاتحاد الأوروبي رغم أنها تتلقى العديد من التمويلات من الإتحاد نفسه. واستناداًإلى ذلك اعتبرت لويس أن مرحلة ما قبل الاستفتاء لم تشمل توعية كافية لوجود الإتحاد وانعكاساته، سواء كانت إيجابية على المناطق البريطانية المختلفة أم سلبية."

وعلى صعيد منفصل، قبيل إعلان النتائج النهائية للإستفتاء البريطاني نبّه تجار التجزئة من إماكنية ارتفاع أسعار السلع الأساسية ومن ضمنها الغذاء، سألنا لويس عما إذا كان فريق  "Brexit" –الداعي للإنشقاق عن الاتحاد الأوروبي – قد طرح سياسات وقائية مُستبقة لتجنّب هذا الأمر، إلا أنه على ما يبدو لا تزال الأمور غامضة وغير مُحكمة من قِبل "Brexit" والطرف الآخر.

فحسب لويس " للأسف لم يكن هنالك تخطيط ممنهج من قبل حملة "Brexit" لهذا الموضوع، ربما لأنهم لم يتوقعوا نجاحها المفاجئ! أما على صعيد الجهة الحكومية فكانت تدعم حملة "البقاء" ضمن الاتحاد الأوروبي، لذا من البديهي ألا تقوم الحكومة بدراسة انعكاسات الحملة المضادة على الأسعار، لأن فكرة "الخروج" لم تكن واردة في فكرهم.. أو ربما لأن رئيس الوزراء البريطاني لم يكن لديه نيّة في البقاء في الحكومة في حال نجح الفريق الآخر."

وأضافت "علينا ألا ننسى أنها المرة الأولى التي تواجه فيها دولة أوروبية انشقاقا عن الإتحاد، لذا لم تكن تتوفر معطيات سابقة يُمكن الإستناد إليها... صحيح أن حملة "Brexit" نجحت إلا أنها نجحت بمستقبل مجهول ستنعكس مؤثراته على الجميع."

لويس لـ"الإقتصاد": معسكر "الخروج" ضلّل الشعب اعلاميا.. وقطع وعودا غير قادرا على تنفيذها

لا تزال الأوساط البريطانية تعيش تداعيات الزلزال السياسي، فبعيدا عن نشوة النصر التي يعيشها معسكر "الخروج"، يحاول الجانب الآخر تدارك الصدمة وعدم الإستسلام للأمر الواقع. فبعد ساعات من إعلان نتيجة الإستفتاء، دعت مجموعة من الناشطين المواطننين للتوقيع على عريضة تطالب بإجراء استفتاء جديد، واستطاعت تلك العريضة جمع أكثر من مليونين ونصف المليون توقيع في يوم واحد، وها هي التوقيعات المطالبة بإعادة الإستفتاء تتزايد  لتصل الى ثلاثة ملايين مواطن بريطاني. فكيف يمكننا هذا الأمر؟ هل هي حالة من الندم؟ أمأن البريطاني بات خائفاً بعد رفع مظلة الإتحاد الأوروبي عنه؟؟ وهل بإمكان البريطانيين تغيير المعطيات الحالية وقلب الطاولة رأسا على عقب "من جديد"؟! خاصة بعد تصريح وزير الصحة البريطاني جيرمي هانت الذي أعلن أن "بريطانيا قد تجري استفتاءً ثانياً بخصوص عضويتها في الإتحاد الأوروبي، إذا تمكنت المملكة من إبرام اتفاقٍ مع الإتحاد يسمح بالسيطرة الكاملة على حدودها." ولكن ردّ الإتحاد كان سريعاً عبر المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل،التي حذرت من أن بريطانيا لن تتمكن من "انتقاء" الإحتفاظ بامتيازاتها مع التخلي عن كل واجباتها بعد قرارها الخروج من الإتحاد الأوروبي".

ترجّح لويس أن تكون ظاهرة التراجع عن النتائج هذه مبنية على أسباب عدة أبرزها شعور البريطانيين بأنه تم تضليلهم من خلال وسائل الإعلام والسياسيين. " في العديد من الحالات قطع فريق "الخروج" وعوداً من الواضح أنه غير قادر على تحقيقها، وضجّت وسائل الإعلام بتلك الوعود كـ"Scoop" مغري! وعلى صعيد آخر تمكّن الفريق عينه بالتعاون مع وسائل الإعلام من إقناع الشعب أن مشكلة بريطانيا الأساسية تتجسد بالمهاجرين واللاجئين.. الأمر الذي استفاق عليه البريطانيون مؤخراً ليلاحظوا أنها ليست المشكلة الجوهرية على الإطلاق! "

أما السبب الثالث الذي استندت إليه لويس فكان "عدم التوعية" على الإنعكاسات الإقتصادية التي قد تصيب البلاد في حال خروجها من الإتحاد الأوروبي، وقد نُظر إلى الحُجج الإقتصادية التي تبناها الفريق الداعم للبقاء،  كالفريق الخائف والكاذب .. إلى أن لاحظ البريطانيون أن تلك الحُجج كانت واقعية وموضوعيّة.

واخيراً فترى الصحافية البريطانية إلى جانب فريق "الخروج"  اعتبروا أن صوتهم سيُمثّل وقفة احتجاجية أو صرخة تصل من خلالها رسالتهم إلى السياسيين، وتقول "أخطأ من قام بهذا الأمر لأنه لم يحل المشكلة لأنه ببساطة لم يسعى إلى مناقشتها، بل اكتفى بتسجيل رفضه من دون توضيح أسبابه."

تعتبر لويس أن الإستفتاء بأسره كان مبنياً على البعد الحسي والعاطفي للأمور وليس على بعده العلمي الملموس.

فتقول " جيّشت حملة "الخروج" أفرادها استنادا الى  فكرتيّ "السيادة" و"إستعادة السيطرة" .. فترى في صفوف التصويت جبهتين وكأنهم في حالة من الحرب فيما بينهم، كمعركة  بين الغني والفقير، البريطاني والأجنبي، المتعلمين وغير المتعلمين،.. ولكن في نهاية المطاف أعتقد أنه اتضح للجميع أن المعيار الاساسي للتصويت كان يجب أن يكون "الاثر الاقتصادي" فقط !!!..

يبدو أن الوضع البريطاني – الأوروبي سيبقى حتى فترة طويلة  في حالة من الغموض.. سنشهد فيها بالتأكيد التأثيرات المباشرة على الاسواق العالمية كافّة، ما سيؤثر بطبيعة الحال على الشرق الأوسط ولبنان، لا سيما في موضوع الحركة التجارية..

للبنان فرصة حقيقية بإمكانه استغلالها عبر الإستفادة من هبوط العملة البريطانية وتفعيل حركة الإستيراد والتصدير.. فهل سينجح لبنان في هذا الإختبار أم أنه سيبقى عالقاً في المتاهات والمناكفات السياسية؟؟؟