عقد وزير الإتصالات بطرس حرب مؤتمرا صحافيا عرض خلاله للتعديلات التي اقترحها في مشروع قانون لرفع السرية المصرفية عن متولّي الشأن العام.

وقال حرب: "إنطلاقاً من إقتناعي بأن شفافية المسؤولين عن الشأن العام والقائمين بخدمة عامّة والقضاة تشكل القاعدة المركزيّة الأساسيّة الأساسيّة لحسن تسيير أمور الدولة ولتطورها وإزدهارها. وإلتزاماً مني بالعمل على مكافحة الفساد ووضع آليّات لمحاسبة المسؤولين والقائمين بخدمة عامّة، وإستكمالاً للجهود التي سبق وبذلتها في هذا المضمار، والتي لم تحقق أهدافها بكل أسف بسبب المواقف الرافضة لها، وبسبب الإنهيار الكبير لمؤسسات الدولة وغياب أيّة مساءلة أو محاسبة وبسبب الحمايات السياسيّة للمخالفين".

وأضاف "ولمّا كان زرع المحاسيب والأزلام في الإدارات العامّة، وتحويلها إلى مراكز نفوذ سياسيّة وحزبيّة ومذهبيّة وإلى محميّات لا يُسمح المس بها، قد جعل من الفساد والإفساد منظومة إجراميّة تمتص دماء الدولة وأبنائها".

وتابع "لمّا كانت المطالبات بإصلاح الإدارات وبمكافحة الفساد تبقى غير مجدية إذا لم تقترن بخطوات عمليّة وتشريعيّة تسمح بنجاحها، قررت إطلاق حملة إصلاحيّة متكاملة تطال كل القطاعات وتهدف إلى وضع تشريعات حديثة كفيلة بمكافحة الفساد، وتبدأ بتقديم مشروع رفع السرّية المصرفيّة عن العاملين بالخدمة العامّة".

وأكمل حرب "بعد أن أقرّ المشترع اللبناني قانون الإثراء غير المشروع بموجب المرسوم الاشتراعي رقم /38/ تاريخ 18/2/1953 لملاحقة الموظّف القائم بخدمة عامّة والقاضي في حال استغلالهم لوظيفته لتحقيق الإثراء غير المشروع، عاد وأقرّ، عام 1956، قانوناً أخضع فيه المصارف في لبنان لسرّ المهنة، وألزم مديري ومستخدمي المصارف بكتمان السرّ إطلاقاً لمصلحة زبائن هذه المصارف، ومنع عليهم إفشاء ما يعرفونه عن أسماء الزبائن وأموالهم والأمور المتعلقة بهم لأي شخص، فرداً كان أم سلطة عامة إدارية أو عسكرية أو قضائية، إلا إذا أذن لهم بذلك خطياً صاحب الشأن أو ورثته أو الموصى لهم، أو إذا أُعلِن إفلاسه، أو إذا نشأت دعوى تتعلق بمعاملة مصرفية بين المصارف وزبائنها.

وإكتفى المشروع آنذاك بمنع المصارف من التذرع بسرّ المهنة المنصوص عليه في هذا القانون بشأن الطلبات التي توجهها السلطات القضائية في دعاوى الإثراء غير المشروع".

 ولفت قائلا "إلا أنه من المؤسف أن تطبيق هذا القانون لم يحقق الأهداف المرجوّة، منه بسبب إمتناع متولّي الخدمة العامة عن التصريح عن ثرواتهم وبالتالي مخالفة القانون دون أية مساءلة أو محاسبة لهم عن ذلك، ما ساعد على إنتشار الفساد، وما سمح للكثيرين بتحقيق الإثراء غير المشروع".

وأشار "خلال عام 1991، يوم توليت مهامي كوزير للتربية الوطنية، أعلنت رفضي لهذه المخالفة الجماعيّة للقانون، وقررت الإلتزام بمضمونه والمباشرة بتطبيق أحكامه، فبادرت إلى تقديم تصريح بممتلكاتي وممتلكات زوجتي وأولادي القاصرين، كما ألزمت كل العاملين في وزارة التربية، والمؤسسات الخاضعة لوصايتها، بوجوب تقديم تصاريح بثرواتهم. وطرحت الأمر في مجلس الوزراء آنذاك، مطالباً بتنفيذ قانون الإثراء غير المشروع وبإلزام كل من تولى خدمة عامة التصريح عن ثروته، بدءاً برئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء والنواب والموظفين والقضاة، وعلّقت استمراري في الحكومة على هذا الأمر".

يومها قرّر مجلس الوزراء البدء بتنفيذ أحكام القانون وتقدّم كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء بتصاريح عن ثرواتهم، كما شمل الإلتزام كل النواب والموظفين والقضاة وكل القائمين بخدمة عامّة بمفهوم القانون".

وقال حرب "كما تقدمت باقتراح قانون لتعديل أحكام قانون الإثراء غير المشروع لضبط آلية التصريح، وتحديد المرجعيات التي تقدم إليها التصاريح، ووضع آليات للمساءلة والتحقيق والمحاسبة.

إلا أنه من المؤسف أن اقتراحي قد فُرّغَ من محتواه أثناء مناقشته في مجلس النوّاب، وأقرت بعض التعديلات التي حالت دون وضع آلية عملية للمساءلة، ووضعت قيوداً تردع من يرغب في المساءلة من المضي في شكواه، نتيجة الرسوم الباهظة التي فرضها على المتضرّر عند تقديم شكواه والتعويضات الكبيرة التي قد يتكبّدها في حال عدم ثبوت دعواه والتي قد تبلغ المايتي مليون ليرة لبنانيّة بالإضافة إلى التعويضات الشخصيّة للمتضرر من الشكوى".

وأكمل "حصل كل ذلك في زمن كان نظامنا الديمقراطي لا يزال يعمل وكانت المعارضة البرلمانية لا تزال تمارس بعض حقها بالمساءلة والمحاسبة.

إلا أنه مع تطور الأحداث وإنفلات السلاح والحمايات الحزبيّة، والمذهبيّة، وبعد تحوّل الحكومات إلى نادٍ يجمع كل القوى السياسية في حكومة واحدة، وغابت المعارضة، وغاب معها بالتالي الرقابة البرلمانية، إستفحل الفساد، وتحوّلت الإدارات والمؤسسات العامّة إلى تجمع مصالح للقوى السياسية، تتبادل عبرها الخدمات والمصالح دون رقيب أو حسيب، ما جعل من الفساد مؤسسة طاغية طالت كل المؤسسات والإدارات والسلطات، ما ألحق بلبنان واقتصاده أفدح الأضرار المعنوية والقانونية والأخلاقية والاقتصادية".

ولفت الى أن "ما زاد الأمر فظاعة هو سقوط أجهزة الرقابة، وانفلات الأمر بشكل بات يهدّد وجود الدولة واستمراريتها، ما أثار ردود فعل من اللبنانيين، تجسدت في الحراك المدني الذي شهدته البلاد، والذي من المؤسف أن يكون قد تعثر مساره بسبب غياب الرؤيا والبرنامج الموحّد، وبسبب محاولة استغلاله من بعض الفئات والأشخاص الذين جهدوا للإندساس في صفوفه أو ضربه لتشويهه وحرفه عن مساره الإصلاحي الصحيح".

وأكمل "تجاه هذا الواقع المخزي، لم يبق أمام اللبنانيين إلا أو الإنضمام إلى منظومة الفساد أو مواجهتها، وإنني إنطلاقاً من إيماني بأن لا حياة لدولتنا، ولا مستقبل لأجيالنا الصاعدة، في هذا الجو من الفساد المستشري، قرّرت المواجهة بإطلاق حملة إصلاحية بعيدة المدى، تهدف إلى تحقيق شفافيّة الطبقة السياسيّة، وتبدأ بإسقاط السرية المصرفية عن الحسابات المصرفية العائدة لمتولّي الخدمة العامة والموظفين والقضاة والعسكريين، ومراكز القرار في الأحزاب السياسية، وأزواجهم وأولادهم القاصرين وذلك  إسهاماً بتحقيق شفافية الطبقة السياسية".

وقال حرب "تحقيقاً لذلك، أعددت مشروع قانون يرفع السرية المصرفية عن حسابات الموظفين والقضاة والقائمين بالخدمة العامة المحددين في المادة /2/ من القانون رقم /154/ تاريخ 27/11/1999 وأزواجهم وأولادهم القاصرين، وعن حسابات الجمعيات السياسية المشمولة بقانون الجمعيات الصادر بتاريخ 3/8/1909، وعن حسابات رؤساء وأعضاء الهيئات الإدارية في الجمعيات السياسية المحددة في الفقرة /2/ من قانون الجمعيات وأزواجهم وأولادهم القاصرين وذلك إنطلاقاً من الأُسس التالية:

- لمّـا كان النظام الاقتصادي اللبناني نظاماً حرّاً يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة ( الفقرة /و/ من مقدمة الدستور).

- ولمّـا كان العديد من التشريعات، وأهمّها قانون سريّة المصارف تاريخ 3/9/1956، قد واكبت هذا النظام الاقتصادي في تعزيزها للمبادرة الفردية وجذب الرساميل.

- ولمّـا كان المشرّع قد حرص على منع استعمال السرّ المصرفي لغير الغاية التي أوجد من أجلها، فمنع التذرع به بشأن الطلبات التي توجهها السلطات القضائية في دعاوى الإثراء غير المشروع المقامة بموجب المرسوم الاشتراعي رقم /38/ تاريخ 18 شباط سنة 1953، وقانون 14 نيسان سنة 1954، اللذين حلّ مكانهما قانون الإثراء غير المشروع رقم /154/ الصادر بتاريخ 27/11/1999.

- ولمّـا كان المشرّع اللبناني قد واكب الاتجاه الدولي لمكافحة تبييض الأموال، فأجاز لهيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان  في القانون رقم /318/ تاريخ 20/4/2001 حق تقرير رفع السرّية المصرفية عن الحسابات التي يشتبه أنها استخدمت لغاية تبييض الأموال.

- ولمّـا كان لبنان قد إنضمّ إلى إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظّمة عبر الوطنية ( القانون رقم 680 – تاريخ 24/8/2005) والتزم بموجبها بعدم جعل السريّة المصرفية عائقاً أمام تنفيذ مضمونها.

- ولمّـا كان لبنان قد إنضمّ إلى إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (القانون رقم /33/ تاريخ 16/10/2008) والتزم بموجبها بإيجاد آليات مناسبة في نظامه القانون الداخلي لتذليل العقوبات التي قد تنشأ عن تطبيق قوانين السريّة المصرفية.

- ولمّـا كان الفساد قد إستمر مستشرياً في المجتمع اللبناني، في العمل السياسي والسلطات والإدارات، بالرغم من كل ذلك.

- ولمّـا كان المواطن اللبناني يدفع ثمن هذا الفساد الذي يجعله غير قادر على حماية حقوقه وتوفير أمنه والذي تتحكّم بمجتمعه منظومة مافيويّة فاسدة، تموّه فاسديها تارةً بوطنيّة مدفوعة أو شعارات الطهارة والإصلاح وتوراً بالمذهبيّة والحزبيّة ما عرّض كل السلطات الدستوريّة والقضائيّة والإدارات والمؤسسات العامّة للشبهات والإتهامات.

- ولمّـا كان قانون الإثراء غير المشروع قد فرض على الموظفين والقضاة والقائمين بالخدمة العامة تقديم تصريح عن ثرواتهم وثروات أزواجهم وأولادهم القاصرين عند مباشرتهم مهامهم وعند إنتهائهم منها، غير أنه لم يتبين أن مثل هذا الإجراء، الذي اقتصر على إيداع التصريح في مغلّف مُغلق لا يخضع لأي تدقيق أو مقارنة، إلا عند الإدعاء، قد حدّ من الفساد الذي طال عمل جزء من هؤلاء.

- ولمّـا كان رفع السرّية المصرفية، عن حسابات الأشخاص المذكورين أعلاه، عند طلب من السلطة القضائية، سيساهم، بلا شك، في الحدّ من ظاهرة الفساد المتفشية بين عدد منهم.

- وحيث أنه في ما يتعلق بالنشاط السياسي للأحزاب، يتبين أن التشريع اللبناني قد منح دائرة الشؤون السياسية والأحزاب والجمعيات في وزارة الداخلية صلاحية السهر على تنفيذ أحكام قانون الجمعيات، غير أن هذه المراقبة تبقى ناقصة إذا لم يتمّ تخويل القضاء الإطلاع على الحسابات المصرفية التي تملكها هذه الأحزاب، خصوصاً وإن ما اصطلح على تسميته بالمال السياسي يلعب دوراً أساسياً في صناعة الرأي العام.

- وحيث أن رفع السرية المصرفية عن الحسابات التي تملكها الأحزاب عند توجيه سلطة قضائية طلباً بذلك، من شأنه تعزيز الشفافية في عمل هذه الأحزاب، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا التدبير يتوافق مع أدنى معايير الشفافية المفترض توفّرها في أي مجتمع متحضّر تلعب فيه الأحزاب دوراً محورياً في تكوين السلطة.

- وحيث أن ما سبق بيانه، في ما يتعلق بالأحزاب، ينطبق أيضاً على أعضاء الهيئات المعنية باتخاذ القرار في هذه الأحزاب، باعتبار أن الهيئات التنفيذية في أي حزب هي من تحدّد التوجهات والسياسات العامة لهذا الأخير، وبالتالي يقتضي الحرص على تعزيز الشفافية في تحديد هذه التوجهات عبر رفع السرّية المصرفية عن الأعضاء الذين تتألف منهم، بناءً على أي طلب يردّ من سلطة قضائية.

- وحيث أنه، استناداً لما سبق، يتبيّن أنّ رفع السرّية ، استناداً لطلب وارد من سلطة قضائية، عن الحسابات المصرفية التي يملكها الموظفون والقضاة والقائمون بالخدمة العامة وأعضاء الهيئات الإدارية في الأحزاب وأزواجهم وأولادهم القاصرين، إضافةً إلى الحسابات التي تملكها هذه الأحزاب، أضحت ضرورة ملحّة، خصوصاً وأنّ الغاية من إقرار قانون سرّية المصارف هي جذب رؤوس الأموال ولا تنطبق على هؤلاء الأشخاص، ولا يجوز أن تتحوّل إلى درعٍ يحمي الفاسدين والمفسدين.

- ولمّـا كان من غير الجائز أن تتحوّل السريّة المصرفيّة إلى غطاء للفساد وتبييض الأموال والأعمال الإرهابيّة، ما يفرض إعادة النظر في مبدأ شموليتها ورفعها عن كل مسؤول عن الشأن العام.

لكل ذلك، أعلن اطلاق حملة شاملة لمكافحة الفساد، تبدأ اليوم بتقديم مشروع رفع السريّة المصرفيّة عن المسؤولين إلى مجلس الوزراء لمناقشته، مع أمل إقراره وإحالته إلى مجلس النواب للغاية عينها.

كما أُعلن بأنني منكبّ على وضع مشاريع عدّة في هذا الإتجاه، ما قد يساهم بنظري بتحقيق نقلة نوعيّة في مسار مكافحة الفساد الطويل والخروج من الشكوى و"النق" إلى المعالجة الجدّية لواقع أليم ومخجل تعيشه الدولة اللبنانيّة".