لا يختلف احد على ان ملف الكهرباء هو في طليعة ملفات الفساد الموجودة في لبنان ، حيث انه مهما تعددت الآراء حول واقعها فان المفهوم واضح ووحيد وفي المختصر المفيد هو"اعلى كلفة لأسوأ خدمة".

فمرفق الكهرباء كغيره اجتاز عدة مراحل خلال الحرب في لبنان،وتعّرضت منشآته الى الدمارالشامل  في كل الاحداث ، لا بل انها كانت مستهدفة من خارج الحرب الداخلية التي استمرت لسنوات  من قبل الاعتداءات الاسرائيلية التي كانت تمطر وابل غضبها على محطات التحويل الرئيسية ، بهدف اغراق البلاد في الظلام ، حيث ان اقسى هذه الاعتداءات كانت عام 1998 وعام 1999 وشملت محطات التحويل الرئيسية في بصاليم والجمهور ودير نبوح في الشمال .

لكنه رغم الدمار كان التيار يعود ال الشبكة  بسرعة لافتة بفضل جهود العاملين وتخطيط المسؤولين والقيميين على المؤسسة مما كان يثير اعجاب الخبراء الاجانب الذين كانوا يهنئون الادارة على قدرتها وجهوزيتها الذاتية في مسح الاضرار واعادة البناء والتشغيل وانجاز التصليحات في مهل قصيرة.

ورغم ان الكهرباء كانت من بين القطاعات التي لحظتها خطة الاعمار والنهوض في العام 1993 مع حكومة الرئيس الشهيد رفيق الحريري بادخالها في مشروع التأهيل والتجهيز وقد انفق عليها الكثير من الاموال عن طريق تلزيمات مختلفة منها قانونية ومنها صفقات مخالفة لقانون انشاء المؤسسة وانظمتها ، فان المواطن لم يلحظ اي تقدم على كافة المستويات التي تمر بها الطاقة اي الانتاج والنقل والتوزيع سوى لفترات قليلة  ومحدودة وخصوصا في مواسم انخفاض الطلب على التيار وتراجع الضغط على الشبكة.

مشكلة ادارية ، مشكلة سوء تخطيط ورؤية ، مشكلة كيدية سياسية  ، مشكلة تضارب مصالح ام ... ما هي مشكلة الكهرباء بالتحديد ؟

ازعور

يعتبر وزير المال السابق  د. جهاد ازعور ان مشكلة الكهرباء  مزمنة وليست وليدة اليوم كملف النفايات الذي انفجر فجأة . فملف الكهرباء  ذات كلفة اقتصادية ومالية وبيئية هائلة. ويقول "للاقتصاد"  استطيع القول ان قبل انخفاض سعر برميل النفط كانت هذه الكلفة على الخزينة مليارين ونصف المليار دولار سنوياً. ناهيك عن المشكلة البيئية وما تنتجه البواخر المستأجرة من تلوث يضرّ بالصحة العامة، الى جانب التلوّث الصادر عن تشغيل المولدات الخاصة والتي يدفع المواطن  من جراء تشغيلها والاعتماد عليها فواتير ضخمة ومرهقة لقاء ما يتم تزويده من خلالها بالطاقة. وهي غالبا ماتكون اكثر بكثير من فواتير الكهرباء رغم عدم شرعيتها.

حسابات غير مدققة

ويشير ازعور الى ان وضع الكهرباء الحالي  المزري مرتبط بعاملين : اولا ً بتغيير الخطط وعدم برمجة العمل .

فمنذ 10 سنوات واكثر تم تغيير ادارة الملف . والاستراتيجية التي تم وضعها للقطاع في ضوء باريس (3) وبدعم من المؤسسات الدولية حيث تم تخصيص ملياري دولار للقطاع عن طريق قروض ميّسرة وبفوائد مخفضة  من البنك الاوروبي للاستثمار لم تعتمد على اي من نقاط القوة هذه، لا بل على العكس تم اللجوء الى التمويل الذاتي مع استبدال آلية العمل .كما انه  تم الخروج بكل بساطة عن برنامج العمل الاساسي مع التحوّل الى  ارهاق الخزينة من جديد وادخال بواخر  على الشبكة لانتاج الطاقة  المكلفة.

و ثانياً :هناك ضعف المؤسسات الهائل بحيث انه  لم يتم العمل عليها بالكامل لاكثر من 15 سنة. ورغم الدعم الكامل لتحسين الادارة المالية ، لم يتغيّر  اداء مؤسسة كهرباء لبنان . وبعد15 سنة لا يوجد حسابات مالية مدققة على اقله منذ العام 2007. وللاسف خطة النهوض التي وضعت من قبل البنك الدولي لم يتم الالتزام بها ولم يتم  اي اصلاح جدي.

ولا يمكن ايضا اغفال مشكلة ادارة مخزون المحروقات فهو غير واضح. الهدر التقني والاداري يبقى على حاله منذ 15 سنة رغم ما نقل عن حملات لتركيب عدادات وتلزيمات للقطاع الخاص.

تلزيم القطاع الخاص؟

ويجدر التوقف والتساؤل عن  العملية التي يتم فيها تلزيم القطاع الخاص . فكيف ندخل القطاع الخاص مع نفس الادارة والجهاز البشري . كل ذلك تم وفق تسويات سياسية بعيدا عن الآلية الدولية .

واول التسويات السياسية كانت بعدم استعمال الملياري دولار التي قدمت هبات وقروض ميسرة منذ العام 2010.

ثاني تسوية اتباع مناقصات جديدة وتلزيم القطاع الخاص مع تثبيت الموظفين ارضاء للمصالح السياسية القائمة .

ويرى  ازعور  ايضا ان  عدم اصلاح مؤسسة كهرباء لبنان هو مشكلة على مستوى التطور المؤسساتي والفشل الاداري.

ويختم : هناك اسباب متعددة في ظل غياب رقابة مالية وتدّخل مستمر في ادارة الملف من قبل وزارة الطاقة.

الخصخصة سيف ذو حدّين

وفي سياق ملف الكهرباء الذي كتب عنه الكثير يلحظ المراقبون الذي وصفوا اوضاع هذا المرفق في تقاريرهم انه منذ بداية التسعينات بدأت ضغوطات كبيرة خارجية وداخلية، تمارس من أجل خصخصة هذا القطاع الاستراتيجي. فقد "أقر مجلس الوزراء في  احدى جلساته (أيار 2000) مشروع قانون تنظيم قطاع الكهرباء في لبنان تمهيدا لخصخصة المؤسسة أو بعض قطاعاتها لا سيما قطاع الإنتاج وقطاع التوزيع ... واتى المشروع بعدما هدّد البنك الدولي بتعليق قروضه المقررة، واتخاذ الإجراءات القانونية، ما لم يقر مشروع قانون يسمح بخصخصة الكهرباء وتأمين توازنها المالي بحلول العام 2002. ومارس البنك الدولي، وكذلك صندوق النقد الدولي  الضغط لرفع سعر الطاقة الكهربائية رغم أن التعرفة اللبنانية هي الأكثر ارتفاعا في العالم، والتي انعكست سلبا على أداء كافة قطاعات الاقتصاد كما على القدرة على الجباية من المواطنين محدودي الدخل. وعملت حكومات الرئيس الحريري على هذه الطريق. ولكنه فيما بعد ذكرت  أدبيات البنك الدولي الأخيرة كلاما آخر؛ ففي تقرير التنمية لسنة 2004 يقول البنك الدولي: "إن الخدمات العامة تعاني من المشاكل بشكل منظم في الدول النامية، لكنه من الخطأ الاستنتاج بأن على الحكومات ترك كل شيء للقطاع الخاص" وشدد تقرير البنك الدولي على أن مشاركة القطاع الخاص في خدمات الرعاية الصحية والتعليم ومشاريع البنية التحتية ليست من دون مشاكل، سيما عندما يتعلق الأمر بإيصال الخدمات للفقراء... ويقول التقرير "إن الأعوام الأخيرة شهدت حماسا غير عقلاني إزاء المنافع المحتملة التي يمكن أن يؤمنها التخصيص". وقال التقرير أن مؤسسات الخدمات العامة التي تم تخصيصها لا تتمتع بقدر كبير من الصدقية في كثير من الدول النامية مشيرا إلى أن استطلاعات الرأي التي أجريت في الأرجنتين والبيرو في الآونة الأخيرة كشفت أن نسبة عدم الرضى عن هذه المؤسسات بين الناس تزيد عن 80 في المئة.

الامتيازات

ولا يغفل هؤلاء وجود الامتيازات فهناك أربع امتيازات  خاصة للكهرباء في لبنان، نشتري الطاقة من مؤسسة الكهرباء وتبيعها للمشتركين. إن كلفة الكيلو وات ساعة لدى المؤسسة تحسب 107 ليرات لبنانية. وكانت تبيع الطاقة للمؤسسات الخاصة بسعر حوالي 70 ل ل. ولكن مجلس وزراء سابق أقر تخفيض الثمن الواحد إلى حوالي 40 ل ل فقط للكيلو وات ساعة، وذلك بغية زيادة أرباح الشركات أصحاب الامتيازات وعلى حساب مؤسسة كهرباء لبنان، ولزيادة خسائرها.بالاضافة الى ذلك تمنّع الوزارات والادارات والمؤسسات العامة والبلديات كما بعض المصانع والشركات  والمؤسسات الخاصة والسياسيين  عن تسديد فواتيرهم دون ان ننسى المخيمات .

إن المشاكل التي تعاني منها مؤسسة كهرباء لبنان أصبحت معروفة، والحلول لهذه المشاكل مطروحة منذ سنوات طويلة، والذي تفتقده هو إرادة الإصلاح. إن إرادة الاصلاح مرتبطة بمصالح بعض أبناء السلطة الحاكمة، من حيث المنافع المادية نتيجة التلزيمات وما تتضمنه من عمولات، ونتيجة الصفقات لإرضاء وتنفيع الأسياد في الخارج كما الأزلام والأتباع في الداخل، وبغية شراء مؤسسات القطاع العام بأزهد الأثمان بعد دفعها إلى الإفلاس.

المسؤولية

ويرى هؤلاء ان المسؤولية عن هدر الأموال ومنع المعالجة الصحيحة  تتوزع بين مجلس الوزراء ومجلس الإنماء والإعمار والهيئات الاستشارية العالية الكلفة والشركات المصنعة لمحطات التوليد الحرارية والشركات الملتزمة لخطوط النقل، وكذلك مجالس إدارة مؤسسة كهرباء لبنان وبعض أجهزة السلطة الأخرى. فمركز اتخاذ القرار غير معروف تماماً، وصلاحيات هذه الجهات غير محددة دائماً، وبالتالي تضيع المسؤولية وتنعدم المحاسبة.

وفي ضوء هذه المعطيات لا احد يمكنه التكهّن اي مستقبل للكهرباء في لبنان وسط الكيدية السياسية والمصالح الفردية التي تتنازع على ادارتها.