من يراقب مسار دراسة او مناقشة الموازنة العامة للعام 2015 يلحظ الكباش الحاصل حولها وسط المواقف السياسية المتنوعة البعيدة بمعظمها عن العلوم الاقتصادية.

واذ يبدي البعض تحفظه ومخافه من ارقام العجز يطرح علامات استفهام كبيرة عن مصادر التمويل.

فعلى صعيد النفقات العامة، جاءت الأرقام إنفاقية بامتياز، وارتفعت 10% تقريباً مقارنة بالعام 2014، بسبب زيادة الرواتب والأجور أكثر من 10%. وهذا مرتبط بزيادة  عديد موظفي القطاع العام نحو 7%، أي نحو 11 ألفاً من قوى أمنية وسياسية، وكذلك بسبب زيادة خدمة الدين العام، وتعويضات نهاية الخدمة نحو 250 مليار ليرة.

ولكن في المقابل ، يتوقّع صندوق النقد الدولي نمواً اقتصادياً بنسبة 2,5 في المئة في العام 2015 ليرتفع حجم الاقتصاد اللبناني الى 54,7 مليار دولار هذا العام. ويركّز الصندوق على تداعيات انخفاض أسعار النفط على حجم الاستهلاك لدى اللبنانيين وعلى الانفاق الحكومي وعلى كلفة إنتاج الشركات اللبنانية.

ما هي حقيقة هذا الانفاق ؟  والكل مقتنع بوجود مزاريب هدر كبيرة اقلها قيام الدولة باستئجار مبان باسعار مرتفعة فيما انها تملك عقارات لا تستعملها ؟ واين هو مصدر الايرادات؟

غبريل

رئيس قسم الابحاث في "بنك بيبلوس" د. نسيب غبريل يرى ان الانفاق هو المشكلة الاساسية  في الموازنة العامة اليوم ، وان اي زيادة في النفقات بدون موازنة منذ 10سنوات بالاعتماد على سلفات من الخزينة، او حسب القاعدة الاثني عشرية وتجاوزها في كثير من الاحيان هي آلية غير سليمة .

واليوم اي تقديرات للنفقات تبقى نظرية ،طالما انه ليس من اقرار للموازنة في مجلس النواب. واذا حصلت المناقشة بدون التوصل الى اقرار تبقى الموازنة موازنة ارقام بدون اي جدوى.

وذكر ان النفقات المرهقة في الموازنة تشمل:

1- خدمة الدين العام الذي هو في ارتفاع مستمر.

2- اعباء رواتب القطاع العام ، وهي تصاعدية من عام الى آخر. واليوم هناك انفلاش كبير وواسع للقطاع العام بدون اي ضبط للانفاق .

ويعتبر غبريل انه اذا  لم يحصل اي جهد لتخفيض هذه النفقات، وانما الاكتفاء فقط بالاعتماد على  الواردات الضرائبية فان مشكلة العجز لن تحلّ ابداً.

وتقليص هذا العجز في 2014بنسبة 6،5% من الناتج القومي بعدما كان 9،4% في 2013 انما  مرده الى تحويلات وزارة الاتصالات الى الخزينة للسنوات بين 2010 و2013. ولكن ذلك لا ينطبق على 2015 حتى مع وجود ضرائب جديدة ملحوظة في الموازنة.

والجدير ذكره هنا ، ان وزير المالية علي حسن خليل قد اشار الى  انه في خلال العام 2014 حققت وزارة المالية بشكل أو بآخر فائضاً أولياً وصل إلى /1700/ ألف وسبعماية مليار ليرة لبنانية، وربما قد يكون ذلك ناتجاً بشكل أساسي عن واردات الاتصالات التي حولت خلال هذا العام، لكن في المقابل كان هناك فائضاً خارج إطار واردات الاتصالات يصل إلى حدود /400/ أربعماية مليار ليرة لبنانيةيعزوه الى نجاح وزارته في ضبط الانفاق.

وحول شمول الموازنة مشروع  تمويل سلسلة الرتب والرواتب يقول غبريل اذا ادخلت السلسلة للموازنة ام لا فهو امر اساسي لناحية ايجاد الواردات اللازمة لها ، خصوصاً وانه وفق ما هو ملحوظ  فان مصدر هذه الواردات هو مجموعة ضرائب تسيء الى القطاعات المستهدفة ، وبالتالي للاقتصاد ككل .

مشروع موازنة مع سلسلة او بدونها ، لا نعرف اليوم الجواب على سلسلة  من  نقاط الاستفهام .

حصر النفقات

اما  عن كيفية  تخفيض النفقات المرتفعة بطريقة علمية بدون المس بالقطاعات الانتاجية يعتبر غبريل انه يجب:

اولاً: تحقيق الاصلاحات في موضوع الكهرباء على كافة المستويات من ادارة، انتاج ، نقل وتوزيع . وفي المقابل، من المفترض اعادة النظر في التعرفة الحالية المعتمدة منذ العام 1996 حيث كان سعر برميل النفط  23 دولارا.

ثانياً: تحرير قطاع الاتصالات بما يتيح تأمين المنافسة اللازمة ، بعد ادخال شركة خليوية ثالثة . وهذا سيزيد مداخيل الدولة ويحقق الارباح .

ثالثاً:اعادة النظر بوضع آلاف الموظفين في القطاع العام الذين هم يشكلون فائضاً غير منتجاً في عدة قطاعات عامة ودوائر رسمية ، يتقاضون رواتب شهرية ومخصصات بدون اي عمل . وهنا يجب اجبارهم على التقاعد المبكر لانهم العبء الاكبر على اليد العاملة الاخرى المنتجة في هذه القطاعات.

الا ان هذا القرار بحاجة لارادة سياسية جدية تفكر بالمصلحة العامة وتعمل من اجلها.

ابواب الايرادات

و في مقابل هذه الاجراءات الملحة ، ثمة تدابير هامة لابد منها لتحصيل الايرادات.

في هذا السياق، ووفق وزير المالية هناك أكثر من 35 أو 40 قانون برنامج إذا لم تقر في الموازنة العامة فإن الاستثمار الإنفاقي ينخفض إلى أدنى مستوى.

وبرأي غبريل ان اهم مصادر تأمين الايرادات هو:

مكافحة اعمال التهرّب الضريبي . فهناك الآلاف من المكلفين لايلتزمون في تسديد المتوجبات الضريبية مما ينعكس سلبا ً على الفئة القليلة التي تقوم  بتسديدها.من هنا ، المطلوب تفعيل الجباية . ويذكر غبريل على سبيل المثال تهرّب 525 الف سيارة في لبنان من دفع رسوم الميكانيك .

ويقول : اليوم هناك 30% من الاقتصاد هو موازي لا يسدد اي ضرائب، وهو غير مسجل في وزارة المال ولا في غرفة التجارة والصناعة ، وذلك بسبب ارتفاع الاعباء التشغيلية . لقد تم التكيّف مع  المشاكل الامنية والسياسية، ولكنه يجب الاهتمام بالاعباء  التشغيلية ، انطلاقاً من البنية  التحتية المترهلة في لبنان.

ولاجل ذلك يجب اشراك القطاع الخاص  مع القطاع  العام في عملية اعادة البناء هذه البنية، وهذا بالتأكيد  سيخفف الاعباء على الموازنة . 

لقد لاحظنا نتائج ادارة الدولة لبعض القطاعات. للاسف، انها فاشلة وغير منتجة.

نحنا بحاجة بدون شك  لنفقات  استثمارية جديدة على البنية التحتية والقطاع الخاص قادر على تنفيذها.

وعن الضرائب الجديدة الملحوظة في باب الايرادات لتمويل النفقات يقول ان مبدأ الضرائب مرفوض في ظل وضع اقتصادي يعاني من التباطؤ . والحل الوحيد في تأمين هذه الايرادات من خلال تطبيق ما ذكرنا سابقا  اي مكافحة التهريب ، وتفعيل الجباية ، وتخفيف الاعباء التشغيلية الى جانب اقرار قانون اشراك القطاع الخاص مع القطاع العام في اعادة بناء البنية التحتية.

ويرى غبريل انه يجب علينا اليوم الافادة من انخفاض اسعار النفط ، وذلك انطلاقا من ارادة سياسية تعمل من اجل استعادة ثقة المستثمر ،خصوصاً اننا نعيش في استقرار امني. فالمشاريع الكبيرة غائبة مع انعدام الرؤية الاقتصادية اللازمة لاستقطاب رؤوس الاموال والاستثمارات الكبيرة.

مؤشرات التصنيف العالمية تلحظ وجوب دفع الدين  عند استحقاقه فيما اننا نكتفي باستبدال سندات الدين  او تجديدها.

1200مليار دولار تم  تأمينها لتغطية نفقات الدين العام  باصدار سندات منذ مدة ، ولكن هناك استحقاق آخر في حزيران . فلماذا لا تلجأ الحكومة الى بيع عقارات عديدة لها غير مستعملة  وبالامكان الاستغناء عنها مثلاً.

للدولة دور هام، ولكن للمجتمع المدني دور آخر ضاغط  ومطالب في وجه المسؤولين. وعليه المحاسبة وردع المسؤول عن القيام باي خطأ يلحق به الضرر وبالمصلحة العامة.

ابواب الانفاق والايرادات الى جانب العجز المستقر والمتصاعد في موازنات حكومات متعاقبة  مسلسل طويل من الصعب وضع الخواتيم السعيدة له في اجواء ملبدة بالصراعات السياسية والمصالح الفردية، والاهم بغياب الرؤية السليمة.