غالباً ما دعا وزراء الصحة العامة المتعاقبون منذ عشرين سنة خلال بثّ تلفزيوني مباشر، المستشفيات الخاصة لاستقبال المصابين بأعمال حربية ونزاعات مسلحة وانفجارات ومعالجتهم على نفقة وزارة الصحة. فهل يستتبع هذا الاعلان التلفزيوني باجراءات ادارية؟ وهل تلتزم المستشفيات بمضمون تصريح اعلامي أم تحتاج إلى تبليغ رسمي؟ وفي حال تمّ نقل المصاب بسيارة خاصة وليس بسيارة اسعاف، فهل يستقبله قسم الطوارىْ على حساب وزارة الصحة؟ وكيف يمكن منع استغلال المواطنين والمستشفيات على حدّ سواء لاعلان الوزير؟

دور الدولة الرعائي والعادل

وما يدعو إلى الاستفسار والتعجّب، هو مدى الصلاحية ووفق أي معيار تتمّ دعوة المستشفيات الخاصة لمعالجة مصابي حريق في مؤسسة خاصة مثلاً على نفقة الوزارة، من دون أن تكون الدولة مسؤولة عن هذا الحريق الذي قد يكون مفتعلاً نتيجة خلافات بين الشركاء أو بدافع الحصول على تعويض من شركات التأمين. وفي حال استعداد الوزارة لتغطية كلً حالات الحريق أو أي حوادث أخرى، فلم لا تعمّم هذا الأمر على المستشفيات وعلى المواطنين معاً، وتصبح تغطية علاج المصابين نتيجة حريق في منزل خاص، أو في مكاتب شركة ما، أو حتى في حقل زراعي على نفقة الوزارة؟

قبل شهر تقريباً، اندلع حريق في أحد المصانع في منطقة ادونيس الصناعية.تسابقت القنوات التلفزيونية على البثّ المباشر.فسارع وزير الصحة، عبر الأثير وقبل التأكد من سبب الحريق ومن وجود أو عدم وجود مصابين، إلى دعوة المستشفيات الى معالجة المصابين على نفقة وزارته ( لم تسجّل أي اصابة حينها ). مشكور الوزير على هذه النخوة الانسانية. ولكن ألا يوجد نوع من التسرّع في هذا " التصرّف الانساني "؟ وألا يسبّب هذا الاداءهدراً في الخزينة العامة، وخللاً في دور الدولة الرعائي المفروض والمتوقع أن يكون عادلاً بين جميع رعاياها ومن دون تمييز؟

منظومة الطوارىْ غائبة أو مغيّبة؟

طرحت " الاقتصاد " هذه التساؤلات وغيرها أمام المعنيين، فأجمعوا على أن وضع منظومة للطوارىء في لبنان يحلّ معظم هذه الاشكاليات. هذه المنظومة التي كان من المتوقع أن تبصر النور في العام 1992، مع تنظيم أول مؤتمر علمي حول تنظيم وتطوير عمل أقسام الطوارىء في المستشفيات اللبنانية، عندما كان مروان حمادة وزيراً للصحة العامة.

وحاولت "الاقتصاد" معالجة هذا الملف الحيوي مع كل من مدير قسم الطوارىء في مستشفى اوتيل ديو دو فرانس د. انطوان الزغبي الذي يشغل أيضاً منصب المدير الطبي في الصليب الاحمر اللبناني، ومع الرئيس السابق لقسم الطوارىء في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت البروفسور أمين القزي وهو أسّس هذا القسم وتولى رئاسته مدّة زمنية، إلى جانب ترؤسه الاكاديمية الأميركية لطبّ الطوارىْ قبل أن يأتي إلى لبنان.

يتوافق الطبيبان على ضرورة قيام وزارة الصحة العامة بتنظيم الطوارىء في لبنان. ويقول د.الزغبي " للاقتصاد " بهذا الخصوص: " ان منظومة الطوارىء غير موجودة في لبنان. ولقد حاولنا أكثر من مرّة اعداد هذه المنظومة من دون جدوى. فالطوارىء أساس في العمل الطبي، ويعتبر قسم الطوارىء واجهة المستشفى، لأنه يستوعب كل الحالات الطارئة ويمتصّها من خلال تأمين الأعمال الطبّية الضرورية. وتحلّ فيه غالبية الحالات. وعقدنا مؤتمرات عديدة وأصدرنا توصيات، واستعانت الدولة بخبرات اوروبية متعدّدة للمتابعة وللتوصّل إلى وضع أطر قانونية وأسس ثابتة تحدّد منهجية عمل أقسام الطوارىء في المستشفيات، ولكنها فشلت لاعتبارات عدّة."

فيما شكا د.القزي "للاقتصاد" من النقص الفادح على صعيد عدم وجود تصنيف لأقسام الطوارىء في المستشفيات. وبحسب رأيه " إن هذا التصنيف ضروري ومهم جداً لتنظيم عمل أقسام الطوارىءبناء على قدراتها وامكاناتها في تلبية الحالات الصعبة والمستعصية".

المسؤولية مشتركة بين الوزارة والمستشفيات

وإذا كان تقصير الدولة وعدم مبالاتها في مقاربة القضايا الاجتماعية بصورة جدية أمراً لا يدعو إلى الاستغراب، فإن ما يدعو إلى القلق هوعدم تعاون المستشفيات الخاصة مع الدولة لتحقيق هذا الهدف،  وذلك مردّه إلى تعامل ادارة المستشفيات الخاصة مع أقسام الطوارىء لديها على أساس أنها عامل اضطراب للعمل الاداري والاستشفائي والجراحي فيها، ولا تحقّق الأرباح. ولذلك لا تضعها في أولوياتها واهتماماتها التوسّعية.

ويعلق د.الزغبي بصفته المدير الطبي للصليب الأحمر على ذلك : " ينجم عن هذا الواقع وقوع اشكاليات بين المسعفين وأهل المرضى وقسم الطوارىء، لا يدفع ثمنها إلا الانسان المصاب أو المريض. وحتى لو نجح المسعفون في نقل المريض إلى قسم الطوارىء لاخضاعه للعناية اللازمة، يبقى المريض تحت رحمة وجود سرير في المستشفى أو لا. ولا يمكن التحقق فعلاً من هذا الأمر. فيقوم الأهل بالاتصالات اللازمة لنقل مريضهم إلى مستشفى آخر".

تفعيل المستشفيات الحكومية

وإذا كانت مسألة ادارة العمل الاستشفائي الخاص تخضع لمعادلة الربح والخسارة، وإذا كان السبب الأساس الذي ترفض المستشفيات المرضى تحت ذريعة عدم وجود الأسرّة، هو عدم استعدادها لخسارة مرضى مستعدّين للدفع المباشر ولتحمّل نفقات العمليات الجراحية في الدرجة الأولى...فلا يمكن ترك الحكومات المتعاقبة من دون المحاسبة والادانة على فشلها في تطوير المستشفيات الحكومية وجعلها المرجعية الأولى على الصعيد الاستشفائي.

يلزم القانون أقرب مستشفى جغرافياً من بيت أو مركز عمل المريض باستقباله،  وتأمين الاسعافات الأولية والطبية اللازمة له. أما بالنسبة الى نقل المريض بين مستشفى وآخر، فهذا يتطلب موافقة المستشفى الذي يرغب المريض بالانتقال اليه، وهذه الموافقة مرتبطة بمدى توفّر الأسرّة، وبعوامل أخرى تعود لسياسة كل مستشفى على حدة.

ولكن يبقى السؤال إلى أي مدى تلتزم المستشفيات بهذا القانون؟

يقول د.القزي: " نحن مثلاً في مستشفى الجامعة، لم نرفض يوماً أي مريض نقله أي فريق اسعاف إلى باب قسم الطوارىء. هذا واجبنا. وبعد اسعافه، نترك له حرية القرار في حال قرّر البقاء لمتابعة الاستشفاء، أو المغادرة إلى مستشفى آخر".

ولمّا كان يصعب تأكيد أو نفي ذلك، تحاول كافة المستشفيات الخاصة قدر المستطاع تجنّب شرب كأس الطوارىء المرّ. وترمي الكرة في ملعب المستشفيات الحكومية. ومن هنا مطالبة د.القزي "بتشكيل هيئة تنفيذية وطنية خاصة بتطوير أقسام الطوارىء في المستشفيات اللبنانية والاشراف على النقل الطبي، على أن يتمّ تأليفها من ممثلين عن القطاعين العام والخاص وتضم: وزارة الداخلية والبلديات، وزارة الصحة العامة، نقابة أصحاب المستشفيات الخاصة، نقابة الأطباء، الدفاع المدني، الصليب الأحمر اللبناني، وهيئات الاسعاف الخاصة والخيرية".

أما د.الزغبي فيقول: "إن مفهوم الدولة الرعائي لكرامة الانسان في لبنان شبه غائب. وأكبر دليل عدم اهتمام الدولة بمستشفياتها الحكومية، وبتطويرها وجعلها موضع ثقة من قبل المواطن.وكان يمكن تفادي الكثير من هذه الاشكاليات لو وضعت الدولة منظمومة الطوارىء، وجهّزت مستشفياتها الحكومية لتصبح مهيّأة لاستقبال كافة أنواع الحالات المرضية والطارئة".

علاقة الاسعاف بالطوارىء

من الناحية العلمية والطبية، لا بدّ من التمييز بين حالات الاسعاف العادي (Basic Life Support ) والاسعاف المتقدم ( Advanced Life Support ). يقول د. القزي " للاقتصاد " إنها " في كلا الحالتين، يجب أن تخضع لاشراف مدير طبي، غير صوري، متخصّص في طبّ الطوارىء كون نقل المرضى يصبّ في إطار الأعمال الطبّية. وإن الاسعاف المتقدّم المتكامل الذي يبدأ في منزل المريض أو في مكان اصابته، ويتواصل في سيارة الاسعاف إلى حين وصولها الى قسم الطوارىء، فهو غير معمّم في لبنان للأسف، لأسباب عدّة مرتبطة بطبيعة النشاط التطوّعي للمسعفين المنتسبين إلى الهيئات والجمعيات الوطنية والخيرية التي تتولى عمليات الاسعاف."

وإذ أعرب في المقابل عن تقديره الكبير للعمل التطوعي في هذا المجال، أكد القزي " أن المسعفين، ولا سيما منهم متطوعو الصليب الاحمر، اكتسبوا خبرات كبيرة على هذا الصعيد، ولكن العمل الطبي يحتاج إلى تخصّص وتهيئة متواصلة والتزام معاً. كما يتطلب الأمر حاجة تمويلية كبيرة لتشغيل سيارة اسعاف وتجهيزها بالفريق المتخصص تتعدّى حدود الـ 100 الف دولار سنوياً، من دون حسبان ثمن السيارة الذي يتراوح بين 80 و 100 الف دولار. وتكون عناصر الاسعاف المتقدم مهيّأة للتعاطي مع حالات صعبة جداً مثل جرحى الصراعات الحربية، حوادث السير المروعة، الجرحة القلبية، هبوط أو ارتفاع حاد في الضغط، ضيف النفس والاختناق، نزيف في الدماغ، اضطرابات كهربائية في القلب، حروق من الدرجة الأولى والثانية..."

ما هي وجهة نظر الصليب الأحمر من هذه المسألة؟

يقول د. الزغبي " للاقتصاد ": "  بالنسبة إلى الاسعاف، نجح الصليب الأحمر اللبناني منذ سنين الحرب، في عملية نقل المرضى والمصابين. وتطوّر العمل الاسعافي في الصليب الأحمر منذ العام 2006، بالتنسيق مع جامعة جنيف ومستشفيات جنيف الجامعية، فأصبح محترفاً مع محافظته على الصفة التطوّعية.وتأسست منذ ذلك الحين مدرسة تدريب في الصليب الأحمر أصبحت بمواصفات عالمية، وتؤمن التدريب والتمرين من خلال تنظيم دورات في الداخل والخارج . ويمكن القول إن كل المسعفين خضعوا لدورات في هذه المدرسة على يد الاختصاصيين المتخرّجين الذين سبقوهم".

وأضاف: "  إن قدرات الصليب الأحمر وديمومة نشاطه وعطاءاته مرتبطة ومتكلة على التطوّع المتجدّد من قبل الشباب القادر على العطاء. ولدينا رؤية تطويرية مبنية على خطة عشرية تأخذ بالاعتبار القدرة على تأمين ما يسمّى الـ Advanced Life Support من خلال مرافقة طبية متخصصة لسيارات الاسعاف. وتكمن قوة الصليب الاحمر وفاعليته في قدرته على تأمين المساعدة للانسان في الحالات الطارئة التي تواجهه. وهذه المساعدة تصل إلى حدّ انقاذ حياة انسان".

من المؤكد أن الحالات الصحية الموجعة والأليمة التي واجهت بعض الناس في الفترة الأخيرة كان يمكن تفاديها لو وضعت الدولة منظومة الطوارىء في أولوياتها. وكان يمكن أيضاً تفادي وقوع وزارة الصحة بخطأ انتهاج أسلوب التهديد بايقاف العقود مع المستشفيات الخاصة، علماً أنه لم يعرف حقيقة ما إذا أوقفت فعلاً هذه العقود؟ وما هي الأسباب التي دفعتها إلى التراجع عن تهديداتها؟