قد تكون المستشارة الألمانية ​أنجيلا ميركل​ في مزاج يسمح لها بالاحتفال، ليس بسبب نهوض الاقتصاد الألماني من الأزمة المالية العالمية لعام 2008-2009--  والتي تحققت مع اعادة تنشيط الصناعات التصديرية وتسجيل انخفاض في معدل البطالة – بل لان المستشارة حققت ذلك في حين أن معظم الاقتصاديات الأوروبية الأخرى ما تزال ترزح تحت وطأة الازمة.

وفي الوقت الذي يتنبأ معظم البلدان الأخرى بحلول مصاعب اقتصادية في المستقبل، تتمتع ألمانيا بتدفق المهاجرين ذوي المهارات العالية، وتشهد تكاليف اقتراض منخفضة، ميزانية متوازنة، بالاضافة الى تنامي سوق الاسكان لديها. وكل ذلك بمثابة نعم للاقتصاد الألماني وانجيلا ميركل على حد سواء.

فالحكمة الشائعة اليوم تقول بأن نجاح المانيا الاقتصادي هي المكافئة للإدارة الاقتصادية الصارمة، مع ان سياسة المحافظة المالية و الإصلاحات الهيكلية وحدها لا تمثل النمو الذي تقوده الصادرات في ألمانيا، بقدر ما هو في الواقع وإلى حد كبير نتيجة التعديلات في العلاقات التجارية والعمالية والتي ادت الى تنشيط الصناعات الألمانية. فالبلاد تدين بالكثير من الانتعاش الاقتصادي الذي حققته الى البنية المحددة من الاتحاد النقدي الأوروبي، وحتى الى التداعيات المالية التي نتجت عن أزمة منطقة اليورو، فالمهاجرين والمستثمرين يتدفقون على المانيا للهروب من الظروف القاسية التي ساعدت –ميركل- وتكنوقراطي الاتحاد الأوروبي على خلقه من خلال التركيز المتشدد على التقشف والإصلاحات الهيكلية، واستقرار الأسعار.

ولكن على الرغم من ان سياسة ميركل بالدفع نحو التقشف على ما يبدو انها تعمل لمصلحة المانيا لكنها محاولة محفوفة بالمخاطر لانها فشلت في نشل الدول الأوروبية المتضررة من الركود الاقتصادي، ولكن استفادة المانيا من اوروبا الصحية اقتصادياً كانت كبيرة فقد بلغت نسبة صادراتها اليها تقريباً 40%، ومؤخراً عبَر كبار شركات صناعة السيارات الألمانية مثل "دايملر" و "فولكس فاغن" عن قلقهم ازاء تراجع مبيعات السيارات الألمانية في الأسواق الأوروبية، فمنطقة اليورو المتداعية، تهدد بقاء الاتحاد النقدي وتجعل من الاقتصاد الألماني يعتمد بشطل خطير على الاسواق الناشئة، لذا فالاعتراف الاكبر بنقاط الضعف هذه وبالطرق التي استفاد منها الاقتصاد الألماني من الوضع الراهن ينبغي ان تزحزح صناع السياسة الألمانية الممانعين، بعيدا عن التقشف والاتجاه بسياسات نحو النمو لبقية الدول الأوروبية.

الأسطورة والمعجزة

ان الايجابات عن اسباب ازدهار الاقتصاد الألماني في الوقت التي كافحت فيه بعجز جميع اقتصاديات أوروبا الاخرى، غالبا ما تشير إلى نجاح التقشف وسياسة الحكومة خلال العقد الماضي.

فاصلاحات "لجنة هارتز" لعام 2002 والتي هي عبارة عن مجموعة اجراءات في سوق العمل، بالاضافة الى الرعاية، والتي خفضت الفوائد المالية وجعلت الامور اسهل للشركات لخلق وظائف مؤقتة تكون محمية بنسب اقل وذات اجور منخفضة، قد ادت الى خفض تكاليف العمالة وشجعت المزيد من الناس على العمل، وفي الوقت نفسه "المسؤولية المالية"، والتي ينص عليها الدستور الألماني، يفترض على انها ضمنت الأداء الاقتصادي القوي في ألمانيا فصناع السياسة الألمانية بدورهم، بشروا بالتقشف والتغيرات الهيكلية في سوق العمل كنموذج لبلدان أوروبية أخرى تبحث لتعزيز القدرة التنافسية، والنمو، وزيادة فرص العمل.

ومع هذا فإن مصادر الانتعاش الاقتصادي في ألمانيا والنجاح المستمر لم تكن في المقام الأول بسبب الإصلاحات في سوق العمل أو المحافظة المالية ولكن التعديلات التي استمرت عشر سنوات في العلاقات التجارية والعمل إلى جانب مكانة ألمانيا في الاتحاد النقد الاوروبي.

ولكن قبل فترة طويلة من إصلاحات "هارتز"، عمدت شركات التصنيع الألمانية، التي واجهت منافسة عالمية متزايدة، الى فرض قيود على الأجور وضبط اوقات العمل في حين قامت بمنح الأمن الوظيفي للعمال المهرة فقط،  وبموافقة من النقابات العمالية على مضض ، وضعت الشركات سلسلة من الادوات المرنة التي سمحت لهم بتحسين ساعات العمل ودفع احتياجاتها الاقتصادية، بدلا من المس بقانون حماية العمال، فالشركات منحت بشكل فعال الأمن الوظيفي في مقابل تنازلات عمالية، واصبح بإمكانها حماية استثماراتها بتوظيف العمال المهرة - عن طريق خفض الأجور وساعات العمل مؤقتاً على سبيل المثال-  بدلاً من فصل العمال عندما ينخفض الإنتاج.

فهذه الابتكارات ادت الى زيادة في الإنتاجية، وخفض في التكاليف، وأعطت الشركات مجالا اوسع للمناورة خلال الأزمة الأخيرة، وبصفة عامة، الى تنشيط الصناعات الألمانية، التي حازت على اعجاب وتقدير عالمي مرة أخرى، بالإضافة إلى ذلك، كان لدى ألمانيا المقدرة على استخدام مكانتها داخل الاتحاد النقدي لدول الاتحاد الاوروبي لتعزيز صادراتها، اضافة الى الميزة الواضحة على الدول الأوروبية الأخرى في كبح جماح الأجور على مستوى الصناعة.

هذا الشكل من تخفيض قيمة العملة الداخلية - وهو ما يعادل انخفاض قيمة العملة على أساس التراجع بالأجور- غذت طفرة الصادرات وجعلت الاقتصاد الألماني أكثر قدرة على المنافسة من دول منطقة اليورو الأخرى، واليورو الضعيف نسبيا بالمقارنة مع ما سيكون عليه في الأوقات الاقتصادية الجيدة يشكل مزيد من الدعم للصادرات الألمانية، اما النعمة الأخرى بالنسبة للمصدرين الألمان هو البنك المركزي الأوروبي "الألماني الهندسة"، نظرا لهوسها بانخفاض معدلات التضخم واستقرار الأسعار.

فهذه التعديلات في العلاقات التجارية والعمالية ومكان ألمانيا كشريك اساسي في منطقة اليورو، إلى جانب الطلب المتزايد على سلع ذات جودة عالية من الاقتصادات الناشئة مثل الصين، ساعدت ألمانيا معاَ عل تعزيز صادراتها واوضاعها العمالية. وعلى الرغم من تراجع الصادرات قليلا العام الماضي، فقد حافظت شركات التصدير على قدرتها التنافسية الشاملة، كما اكدت دراسة أجريت مؤخراً من قبل المنتدى الاقتصادي العالمي.

 بدت ميركل بأن لديها "آسات" ذات منفعة لا يعرفها احد سواها، "الآس" الأول هي الطفرة غير المقصودة وغير المتوقعة في سوق الإسكان، والتي غذتها أزمة الديون الحالية في أوروبا، حتى الآن، لم يكن سوق الاسكان في ألمانيا مثيراً للاهتمام بشكل خاص من قبل المستثمرين، كما أن أسعار المنازل في العقود الأخيرة عانت من ركود شديد، ومع هذا فقد حفزت أزمة الديون، الاستثمار في القطاع العقاري الألماني،  والذي اعتبر كـ- ملاذا آمنا  للاستثمار في أوقات عدم الاستقرار الاقتصادي وانخفاض أسعار الفائدة. وقد يكون العمال الألمان والذي تم الحفاظ على وظائفهم خلال الأزمة وتلقوا زيادات معتدلة على الأجور أيضاً، أكثر استعدادا لشراء المنازل، فمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية احتسبت أن أسعار المنازل زادت بنسبة 5.4 %  في عام 2011.

و"الآس" الثاني هو أن الوضع في ألمانيا كملاذ آمن عززت قدرة البلاد لاقتراض المال بأسعار فائدة منخفضة جداً - في بعض الأحيان وصلت معدلاتها الى معدلات سالبة- خلال أزمة الديون، فالبحث عن استثمارات آمنة ادى الى تدفق المستثمرين على سوق السندات الألمانية، وفقا لـ"معهد كيل للاقتصاد العالمي" وهو مركز أبحاث ألماني.

وسوق السندات المتفائل قد حفظ للحكومة الاتحادية ما يقرب 80 مليار يورو بين عامي 2009 و 2013، "بالمقارنة مع أسعار الفائدة ما قبل الأزمة"، الذي يساهم الآن - جنبا إلى جنب مع سجل عائدات الضرائب -  في تحقيق التوازن في ميزانية ألمانيا واستقرار ديونها العامة. وعلاوة على ذلك، وبعد النقص الذي دام عشر سنوات من العمالة الماهرة في قطاع الصناعات التحويلية في البلاد والمجتمع الهرم والمتقلص والذي يهدد المانيا كدولة رفاه ورعايا، تسببت أزمة الديون في تدفق المهاجرين المهرة من البلدان التي تعاني من الأزمة الى المانيا هو ما يعتبر "آس" ميركل الثالث.

وتشير تقديرات مكتب الاحصاء الاتحادي في المانيا ان صافي الهجرة  في عام 2012 كان يقدر بنحو 370،000، فبعد ثماني سنوات من الانكماش السكاني، آخذ عدد السكان في ألمانيا بالازدياد مجدداً.

عمل محفوف بالمخاطر

باختصار، وفي الوقت الراهن، تتمتع ألمانيا بوضعية أفضل من جميع دول الاتحاد الاوروبي، اضافة الى بعض دول العالم -  فقطاع الصناعات التحويلية يتمتع بتنافسية عالية، معدلات البطالة منخفضة، الحد الأدنى من تكاليف الاقتراض في الأسواق المالية، ميزانية متوازنة، سوق الاسكان مزدهر، وقوة عاملة ماهرة متزايدة - في حين أن العديد وغيرها من الاقتصاديات المتقدمة تعاني من تراجع القدرة التنافسية وبزيادة معدل البطالة "فرنسا"، وتكاليف الاقتراض المرتفعة "المنطقة المحيطة بمنطقة اليورو"، سوق العمل التي لا يمكن أن تتطابق المهارات اللازمة والاحتياجات "الولايات المتحدة"،  وتداعيات فقاعات الإسكان "ايرلندا واسبانيا".

ومع ارتفاع معدلات القبول العام، تبدو الآفاق جيدة بالنسبة لميركل في انتخابات "البوندستاغ" القادمة، حتى مع وجود نقد لاذع من  مختلف ألوان الطيف السياسي الألماني، بالاضافة الى العديد من مواطني الاتحاد الأوروبي حول خطط التقشف، والتي حافظت على النجاح الاقتصادي في ألمانيا - ولكن بشكل خطير.

ان إقناع ميركل بوجود "تشققات" في الأسس الاقتصادي في ألمانيا ونقل البلاد بعيداً عن سياسة "المحافظة المالية" ستكون عسيرة، ولكن نموذج التصدير التي يعتمد "بشكل كبير" على الاقتصاديات الناشئة، وضعف الطلب المحلي، وكذلك منطقة اليورو المتداعية يمكنه الى حد كبير اسقاط الوحدة النقدية بأكملها والمعجزة الألمانية، فالرأي القائل بأن التقشف ساهم في النجاح الاقتصادي في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية يزدهر في الفكر الاقتصادي السائد ايضاً.

ولكن التحول بعيداً عن التقشف يعتبر ضروري للمساعدة في انعاش منطقة اليورو وتوليد نمو مستدام في أوروبا، و يعطي القادة الاوروبيين المزيد من الوقت للتركيز على مشاكل أعمق في منطقة اليورو، بما في ذلك تحديات الاستمرار في جمع نماذج مختلفة جدا من الرأسمالية ومستويات متباينة من القدرة التنافسية، فالإصلاحات المؤسسية الكبرى على مستوى الاتحاد الأوروبي، من بينها تحريك التكامل الاقتصادي إما إلى الأمام أو الى الخلف، يتطلب مساومة واسعة النطاق بين دول الاتحاد.

فالبلدان التي ضربها الركود تحتاج للعثور على مسارها الخاص نحو زيادة القدرة التنافسية، فكل هذه الخطوات تتطلب وقتاً، "السلعة النادرة" نظرا للظروف البالغة الصعوبة التي تواجه العديد من البلدان التي تعاني من الديون، وان مثل هذه التحولات في السياسة تساعد على استقرار أوروبا التي تعاني من أزمة، وإشارة التزام ألمانية لإصلاح المشاكل النظامية في القارة بدلا من مجرد التخبط.

ان مسار ميركل المقبل محفوف بالمخاطر، فعلى الرغم من كون أن ألمانيا قد تبدو معزولة عما يحدث في بقية منطقة اليورو، فإن نظرة فاحصة تكشف عن هشاشة "عملاق التصدير" اي المانيا، على ميركل ان تكون حذرة، اذا ارادت بقاء المعجزة الألمانية حية عليها بتقديم المساعدة لمختلف القارة الأوروبية.

وعليها أن تسمح بخفض سياسات التقشف في منطقة اليورو والسياسات التي تولد المزيد من الإنفاق في الداخل والخارج، فعلامات التباطئ في الاقتصاد الألماني بالربعين الأخيرين، وتوقعات النمو المتشائمة، يجب ان تكون علامات تحذيرية التي قد تجبر ميركل على تبني هذه التغييرات .وخلاف ذلك ق تنضم المانيا الى وتصبح  "رجل اوروبا المريض".